بيروت – همس في أذني: "أنتِ يا بنت القدس!"، أمسك برأسي وضغط عليه بقوة. شدّ القيد على معصميّ ثم أرجع رأسي إلى الوراء ضاغطاً على عينيّ بالعصابة السوداء وقد ألصق قدمه على قدمي.
بدأ صوته يعلو تدريجياً "كيف بتطلعي مظاهرة ضد النظام ونحن خسرنا كتير مشان بلدكن، أحسن شي نكبكُن على الحدود". هذه هي المرة الأولى التي أصطدم فيها بشكل مباشر مع هويتي. ما قاله المحقق في فرع المخابرات الجوية كان غريباً بالنسبة لي، محاولته فصلي عن طفولتي، مراهقتي وشبابي وذاكرتي، سلخي عن وطن ما شعرت يوماً أنّي غريبة فيه، جعلني أطرح على نفسي سؤالاً وللمرة الأولى .. هل أنا فلسطينية أم سورية؟؟؟ وهل يجب أن يكون هناك فرق؟!
اليوم يعاني سكان مخيم اليرموك، فلسطينيين كانوا أم سوريين، المعاناة نفسها داخل الحصار الذي فرضه عليهم النظام السوري، النظام ذاته الذي يدّعي في خطاباته المستمرة "وقوفه إلى جانب القضية الفلسطينية ودفاعه عنها".
أنشئ مخيم اليرموك عام 1957، على مساحة تقدَّر بـ2.11 كم مربع فقط لتوفير الإقامة والمسكن للاجئين الفلسطينيين في سوريا، وهو من حيث تصنيف وكالة الأونروا لا يعتبر مخيماً رسمياً. وهو أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين في سوريا.
12-2012 بدأ الحصار على المخيم بشكل جزئي بعد القصف العنيف الذي تعرض له والذي أسفر عن مقتل العديد من المدنيين في الوقت الذي توافد إليه آلالاف النازحين من المناطق المجاورة هرباً من القصف العنيف عليها. مرّ الحصار بعدة مراحل، آخرها كان في 5 رمضان الماضي إذ تم إحكام إغلاق جميع مداخل ومخارج المنطقة الجنوبية من دمشق بشكل كامل.
"في بداية الحصار كان السكان قادرين على تأمين المواد الإغاثية، لكن المواد الغذائية والطبية بدأت تنفد مع ازدياد حدة الحصار ومنع النظام دخول أي مواد إلى المخيم. ارتفعت حالات الوفاة نتيجة سوء التغذية.."، يقول عبد الله أحد شباب المخيم، ويتابع: "أكثر من 1000 حالة بحاجة إلى عمليات سريعة طارئة، ومشفى فلسطين التابع للهلال الأحمر يعمل بالحد الأدنى حيث إن 90% من المواد الطبية غير متوفرة، كما أنه المشفى الوحيد الموجود الآن في المخيم والذي لم يسلم من قصف النظام له".
وأضاف عبد الله "لم يعد أمام سكان المخيم سوى تدبير أمر معيشتهم مما تجود به قارعة الطريق.. لكن ذلك ليس بالأمر السهل، ولا الآمن. قبل يومين تسممت عائلة كاملة بسبب أكلها القطط. عائلة أخرى حاول الأب حرق أطفاله لأنه غير قادر على تأمين الطعام لهم، فمثلاً يترواح سعر كيلو الأرز بين 10 آلاف و12 ألف ليرة سورية، والأهالي لا يملكون المال لشرائه بهذا السعر، أنا من الأشخاص القلائل الذين يستطيعون أكل وجبة مكوّنة من "المخلّل" والأعشاب (لوح الصبارة، خبيزة) "إذاً أنا غني".
يعمل عبد الله (24 عاماً) مع مجموعة من شباب مخيم اليرموك في نقل الأخبار وتوثيق الحالات والإغاثة، ويعيش عبد الله في المخيم مع والدته "الناشطة هناك أيضاً، "المخيم بالنسبة إلي هو فلسطين، والثورة السورية نحن جزء منها ضد الذي هو حجر عثرة في وجه التحرير". ويكمل "لا أفكّر بأني فلسطيني أو سوري، أنا منتمٍ لهذا البلد إنسانياً قبل كل شيء، ولن أخرج من مخيم اليرموك إلا بحال أصبح وجودي مثل عدمه، وفي حال خرجت منه لن أعود.. لا أستطيع أن أتخيل شوارع المخيم من دون وجود حسان وأحمد كوسى وأحمد السهلي ومنير الخطيب وبسام حميدي وأياس نعيمي وجعفر .. ".
محاولات النظام إخضاع المخيم لم تبدأ بالحصار فقط . إن استخفاف النظام بالفلسطينيين وحيواتهم خلال الثورة بدأ حين استخدمهم في بداية الثورة لإيصال رسالة إلى اسرائيل، إذ غرر النظام السوري والجبهة الشعبية ببعض الشباب الفلسطينيين المندفعين وراء حلم تحرير الأرض لاقتحام الحدود السورية الاسرائيلية عبر الجولان، وفكَّ النظام حينها حواجزه الأمنية على الطرقات المؤدية إلى الجولان. خطة النظام هذه أسفرت عن مقتل 30 فلسطينياً على الحدود بالرصاص الاسرائيلي، و20 آخرين أثناء تشييع قتلى الحدود في المخيم برصاص الجبهة الشعبية القيادة العامة التي أطلقت النار عليهم ، في ما سمي بـ"المجزرة الخالصة".
"يبدو أن النظام طلب من أحمد جبريل أن يحاول فرض سيطرته على اليرموك بأي طريقة ممكنة، وهذا ما حاول جبريل القيام به مستعيناً "بزعرانه" الذين قاموا بمضايقة الجيش الحر وتعطيل بعض عملياته، كما قاموا باستعباد الناس وترهيبهم بالسلاح، وساعدوا النظام على اعتقال عدد كبير من شباب المخيم".
يقول محمد الشاب الذي نزح قبل إعلان الحصار الكامل على اليرموك ـ رافضاً أن يذكر اسمه الحقيقي خشيةً على جزء من عائلته بقي هناك ـ "ازداد الغليان في المخيم من قبل السكان والجيش السوري الحر الذي هو من شباب وأهالي المخيم وعادت التظاهرات من جديد وبقوة أكبر إلى أن قُصفنا بالميغ".
استخدم النظام في مرحلة قصف اليرموك الأولى طيران الميغ والذي كان نقطة تحول كامل لوضع المخيم، إذ قصف حينها جامع عبد القادر الحسيني والمنازل التي حوله ما أسفر عن مقتل 170 مدنياً، ونزوح عدد كبير من سكان المخيم إلى لبنان.
شارك اليرموك في الثورة السورية منذ الأشهر الأولى، إذ رفع شبابها شعارات الثورة السورية ذاتها تحت عنوان" فلسطيني سوري واحد". اكتشفتُ إنني لست فلسطينياً فقط، بل فلسطيني سوري، أتقاسم مع السوريين الهواء والماء والقذائف والصواريخ، وداخل حدود المخيم اكتشفت شكل وفداحة ما حلّ باللاجئين الفلسطينيين الأوائل من خلال معايشتي لنزوح السوريين من مختلف الأنحاء والأرجاء ليتخذوا اليرموك ملجأً لهم من قمع العسكر". يعلق ثائر السهلي.
للشام بُعدٌ في هذا المخيم، وهو ارتمى في حضنها. مخيم اليرموك كان عالماً من "الخصوصية الوطنية" المبنية على تضاد مع "المنفى" وخدشاً بارزاً في الهوية، "لا أعرف إن كنت سأشعر بفلسطينيتي من دونه".
تصاعدت النداءات الإنسانية لإنقاذ سكان المخيم المحاصرين منذ أكثر من 8 أشهر، لكن دون جدوى، إذ حاولت عدة قوافل إغاثية الدخول إلى اليرموك لكنها فشلت. آخرها قافلة يوم الاثنين الماضي التي تعرضت لإطلاق نار كثيف من قبل قوات النظام وأعادتها من حيث جاءت.
"كان هناك أكثر من محاولة هذا الشهر لإدخال المساعدات من مواد غذائية وطبية إلى اليرموك من قبل أطراف عدة، لكن النظام السوري تصدى لها ومنعها من الدخول حتى تلك التي كانت من منظمات دولية كالأونروا والصليب الأحمر"، يشيرعبد الله "لربما تُحَل هذه الأزمة وتدخل المساعدات بعد جنيف 2". وأضاف: "المدنيون والمحاصرون ضحايا قبضة نظام لا يرحم .. لكنّ المخيم باقٍ.. حتى وإن صار جزءاً من مخيم آخر كبير يدعى سوريا".
ضحى حسن
NOW
بدأ صوته يعلو تدريجياً "كيف بتطلعي مظاهرة ضد النظام ونحن خسرنا كتير مشان بلدكن، أحسن شي نكبكُن على الحدود". هذه هي المرة الأولى التي أصطدم فيها بشكل مباشر مع هويتي. ما قاله المحقق في فرع المخابرات الجوية كان غريباً بالنسبة لي، محاولته فصلي عن طفولتي، مراهقتي وشبابي وذاكرتي، سلخي عن وطن ما شعرت يوماً أنّي غريبة فيه، جعلني أطرح على نفسي سؤالاً وللمرة الأولى .. هل أنا فلسطينية أم سورية؟؟؟ وهل يجب أن يكون هناك فرق؟!
اليوم يعاني سكان مخيم اليرموك، فلسطينيين كانوا أم سوريين، المعاناة نفسها داخل الحصار الذي فرضه عليهم النظام السوري، النظام ذاته الذي يدّعي في خطاباته المستمرة "وقوفه إلى جانب القضية الفلسطينية ودفاعه عنها".
أنشئ مخيم اليرموك عام 1957، على مساحة تقدَّر بـ2.11 كم مربع فقط لتوفير الإقامة والمسكن للاجئين الفلسطينيين في سوريا، وهو من حيث تصنيف وكالة الأونروا لا يعتبر مخيماً رسمياً. وهو أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين في سوريا.
12-2012 بدأ الحصار على المخيم بشكل جزئي بعد القصف العنيف الذي تعرض له والذي أسفر عن مقتل العديد من المدنيين في الوقت الذي توافد إليه آلالاف النازحين من المناطق المجاورة هرباً من القصف العنيف عليها. مرّ الحصار بعدة مراحل، آخرها كان في 5 رمضان الماضي إذ تم إحكام إغلاق جميع مداخل ومخارج المنطقة الجنوبية من دمشق بشكل كامل.
"في بداية الحصار كان السكان قادرين على تأمين المواد الإغاثية، لكن المواد الغذائية والطبية بدأت تنفد مع ازدياد حدة الحصار ومنع النظام دخول أي مواد إلى المخيم. ارتفعت حالات الوفاة نتيجة سوء التغذية.."، يقول عبد الله أحد شباب المخيم، ويتابع: "أكثر من 1000 حالة بحاجة إلى عمليات سريعة طارئة، ومشفى فلسطين التابع للهلال الأحمر يعمل بالحد الأدنى حيث إن 90% من المواد الطبية غير متوفرة، كما أنه المشفى الوحيد الموجود الآن في المخيم والذي لم يسلم من قصف النظام له".
وأضاف عبد الله "لم يعد أمام سكان المخيم سوى تدبير أمر معيشتهم مما تجود به قارعة الطريق.. لكن ذلك ليس بالأمر السهل، ولا الآمن. قبل يومين تسممت عائلة كاملة بسبب أكلها القطط. عائلة أخرى حاول الأب حرق أطفاله لأنه غير قادر على تأمين الطعام لهم، فمثلاً يترواح سعر كيلو الأرز بين 10 آلاف و12 ألف ليرة سورية، والأهالي لا يملكون المال لشرائه بهذا السعر، أنا من الأشخاص القلائل الذين يستطيعون أكل وجبة مكوّنة من "المخلّل" والأعشاب (لوح الصبارة، خبيزة) "إذاً أنا غني".
يعمل عبد الله (24 عاماً) مع مجموعة من شباب مخيم اليرموك في نقل الأخبار وتوثيق الحالات والإغاثة، ويعيش عبد الله في المخيم مع والدته "الناشطة هناك أيضاً، "المخيم بالنسبة إلي هو فلسطين، والثورة السورية نحن جزء منها ضد الذي هو حجر عثرة في وجه التحرير". ويكمل "لا أفكّر بأني فلسطيني أو سوري، أنا منتمٍ لهذا البلد إنسانياً قبل كل شيء، ولن أخرج من مخيم اليرموك إلا بحال أصبح وجودي مثل عدمه، وفي حال خرجت منه لن أعود.. لا أستطيع أن أتخيل شوارع المخيم من دون وجود حسان وأحمد كوسى وأحمد السهلي ومنير الخطيب وبسام حميدي وأياس نعيمي وجعفر .. ".
محاولات النظام إخضاع المخيم لم تبدأ بالحصار فقط . إن استخفاف النظام بالفلسطينيين وحيواتهم خلال الثورة بدأ حين استخدمهم في بداية الثورة لإيصال رسالة إلى اسرائيل، إذ غرر النظام السوري والجبهة الشعبية ببعض الشباب الفلسطينيين المندفعين وراء حلم تحرير الأرض لاقتحام الحدود السورية الاسرائيلية عبر الجولان، وفكَّ النظام حينها حواجزه الأمنية على الطرقات المؤدية إلى الجولان. خطة النظام هذه أسفرت عن مقتل 30 فلسطينياً على الحدود بالرصاص الاسرائيلي، و20 آخرين أثناء تشييع قتلى الحدود في المخيم برصاص الجبهة الشعبية القيادة العامة التي أطلقت النار عليهم ، في ما سمي بـ"المجزرة الخالصة".
"يبدو أن النظام طلب من أحمد جبريل أن يحاول فرض سيطرته على اليرموك بأي طريقة ممكنة، وهذا ما حاول جبريل القيام به مستعيناً "بزعرانه" الذين قاموا بمضايقة الجيش الحر وتعطيل بعض عملياته، كما قاموا باستعباد الناس وترهيبهم بالسلاح، وساعدوا النظام على اعتقال عدد كبير من شباب المخيم".
يقول محمد الشاب الذي نزح قبل إعلان الحصار الكامل على اليرموك ـ رافضاً أن يذكر اسمه الحقيقي خشيةً على جزء من عائلته بقي هناك ـ "ازداد الغليان في المخيم من قبل السكان والجيش السوري الحر الذي هو من شباب وأهالي المخيم وعادت التظاهرات من جديد وبقوة أكبر إلى أن قُصفنا بالميغ".
استخدم النظام في مرحلة قصف اليرموك الأولى طيران الميغ والذي كان نقطة تحول كامل لوضع المخيم، إذ قصف حينها جامع عبد القادر الحسيني والمنازل التي حوله ما أسفر عن مقتل 170 مدنياً، ونزوح عدد كبير من سكان المخيم إلى لبنان.
شارك اليرموك في الثورة السورية منذ الأشهر الأولى، إذ رفع شبابها شعارات الثورة السورية ذاتها تحت عنوان" فلسطيني سوري واحد". اكتشفتُ إنني لست فلسطينياً فقط، بل فلسطيني سوري، أتقاسم مع السوريين الهواء والماء والقذائف والصواريخ، وداخل حدود المخيم اكتشفت شكل وفداحة ما حلّ باللاجئين الفلسطينيين الأوائل من خلال معايشتي لنزوح السوريين من مختلف الأنحاء والأرجاء ليتخذوا اليرموك ملجأً لهم من قمع العسكر". يعلق ثائر السهلي.
للشام بُعدٌ في هذا المخيم، وهو ارتمى في حضنها. مخيم اليرموك كان عالماً من "الخصوصية الوطنية" المبنية على تضاد مع "المنفى" وخدشاً بارزاً في الهوية، "لا أعرف إن كنت سأشعر بفلسطينيتي من دونه".
تصاعدت النداءات الإنسانية لإنقاذ سكان المخيم المحاصرين منذ أكثر من 8 أشهر، لكن دون جدوى، إذ حاولت عدة قوافل إغاثية الدخول إلى اليرموك لكنها فشلت. آخرها قافلة يوم الاثنين الماضي التي تعرضت لإطلاق نار كثيف من قبل قوات النظام وأعادتها من حيث جاءت.
"كان هناك أكثر من محاولة هذا الشهر لإدخال المساعدات من مواد غذائية وطبية إلى اليرموك من قبل أطراف عدة، لكن النظام السوري تصدى لها ومنعها من الدخول حتى تلك التي كانت من منظمات دولية كالأونروا والصليب الأحمر"، يشيرعبد الله "لربما تُحَل هذه الأزمة وتدخل المساعدات بعد جنيف 2". وأضاف: "المدنيون والمحاصرون ضحايا قبضة نظام لا يرحم .. لكنّ المخيم باقٍ.. حتى وإن صار جزءاً من مخيم آخر كبير يدعى سوريا".
ضحى حسن
NOW