عند عبورك الحدود إلى سوريا تشعر بالجفاء، حيث الصقيع يرتسم على وجوه رجال الأمن المنتشرين هناك. تحمل جواز سفرك، وتخبّئ هاتفك. تأخذ نفساً عميقاً. تتوجّه إلى الشخص الجالس خلف الزجاج، يحدّق بك وبكل المتواجدين في المكان، تمدّ يدك، تنظر إلى صديقك في الصف المجاور. لن تنتظر كثيراً، فالمغادرون اليوم هم الأكثريّة.
يُختَم جواز سفرك فتتنفّس الصعداء، وتخرج مسرعاً. تقف بعيداً قليلاً في انتظار صديقك، يخرج، تركبان السيّارة وتبتسمان. لقد تجاوزتما المرحلة الأولى وها هي الطريق إلى دمشق مفتوحة أمامكما.
نشوة عارمة تصيبك ما إن تطأ قدماك الأراضي السوريّة، وتستمر إلى أن يستوقفك الحاجز الأوّل. شاب صغير يبدو أنه بلغ الحلم قبل قليل. شارباه لم ينبتا بعد. يطلب هويتيكما ويفتح صندوق السيّارة، يفتش السيّارة، وينظّم المرور. تبتسمان بتأهّب. بعد 100 كيلومتر، يستوقفك حاجز آخر: رجل في الـ50 من العمر ملامحه لطيفة تستغرب وجوده هنا، تسأل نفسك: "ألم يتقاعد بعد؟"، يشير بيده كي تمرّا من دون أن يرى الهوية. وبعد 50 كيلومتراً، حاجز مختلف يتمركز بجانبه رجل ثلاثيني قاسي الملامح يحمل في يده سيجارة يدخنها بـ"عنف"، على غرار ملامح وجهه. يطلب منك التوقف ويحدّق في وجهيكما. كأنه التقط فريسته. يفتش بدوره السيّارة ويدقّق بالهويات وقد فاحت منه رائحة تبغ عفن. يعطيك الإيعاز بالمغادرة.
تحاول تجاهل كل هذه الحواجز ووجه الرجل الجالس خلف الزجاج وهو يحرّك يده على الحاسوب للتأكد من هويّتك، وعين العسكري النهمة وهو ينفث الدخان ويحدّق بكما.
وأخيراً، هنا دمشق. تفترقان كلّ إلى وطنه داخل الوطن.
صراع المشاعر في "الشام" يوازي أصوات القصف المنبعثة من قاسيون. رغبة ملحّة بالتمسّك بفكرة امتياز المكان بصمود وصبر شعبه تهزّها بين لحظة وأخرى عيون أهلها المتأهّبة والمتعبة. الناس في دمشق يجولون في الشوارع متجاهلين بحكم العادة الطائرات المتوجّهة نحو هدف جديد.
سماء المدينة يعمّها ضباب رمادي تُفضّل أن تنسبه إلى حالة الطقس، في حين تبرّر لنفسك عدم قدرتك على الاتصال بمعظم الأرقام المسجّلة على هاتفك (معتقل- مسافر- منفي- مهجر- ميت). تحاول أن تلتقي بمن بقي منهم والذين بنفسك فيهم. تشعر بثقلك أمامهم وأنت تجلد نفسك بكل أسباب هروبك، غيابك عنهم، تحاول تجميلها وتغليفها فتصفعك ابتساماتهم أثناء التحدث عن كيفية الاعتياد على الحياة اليومية الجديدة على إيقاع الوضع الحالي والذي تغيّر بشكل كبير في الأشهر الثلاثة الاخيرة.
التقيت بأصدقائي في بيت جمعنا كثيراً قبل الثورة وخلالها. بدأ سباق الأحاديث عن أخبارهم وعمّا يجري، وكيف أصبحت "ربطة" الخبز هدية هذه الأيام. عن الشوارع التي علينا أن نسلكها وما قُطع منها، وموعد العودة إلى المنزل ليلاً، وأوقات قضوها معاً أثناء ارتفاع حدة القصف والمداهمات والاعتقالات.
هل سأكون هنا ليلة رأس السنة؟ سألني صديق، لتقطع حوارنا إجراءات الاستعداد لانقطاع الكهرباء واقتراب موعد المغادرة. حضنته بقوّة. حاولت أن أجفف دموعي قبل أن تسقط كما فعل هو. وافترقنا.
لقاءات كثيرة كهذه، كانت حميميّة وموجعة، وشعور بالذنب لا يفارقك، ورغبة بالبقاء لا يمنعك منها سواك. تحاول المضي في زيارتك تلك وإن كنت تمتعض من شعور أنك "سائح". إنها حقيقة، فأنت لم تعد تعيش تفاصيل ما يمر به مَن بقي هناك، يصدمك ارتفاع أسعار المواد الغذائية وغيرها، إغلاق طرق جديدة، ازدياد الحواجز، قطع الكهرباء المستمر، ورحيل آخرين.
كل هذا وأكثر، فأنت لم تعد تشاركهم حياتهم، أنت أصبحت في الخارج، تعلن حزنك، شوقك، غضبك، وحبك عن طريق وسائل الاتصال كأي مغترب آخر. تستمع الى أحاديثهم وتخبِّئ الأحداث التي تمر بها في البلد المجاور خجلاً، صديقك ما زال معتقلاً، وآخر رغم خطورة بقائه هناك ما زال متمسكاً بالبقاء وإن كانت نهاية تعنّته مقتله.
الصباح في دمشق سباق مع الزمن قبل أن يحلَّ المساء وتنام الشوارع. معظم الطرق مقفلة بمتاريس وحواجز، ما يشكّل زحمة سير خانقة. عليك أن تسير على قدميك لتتجنب الوقوف ساعات قبل أن تصل الى الشارع المقابل.
الأصدقاء هناك… أو من تبقى منهم ما زالوا يشربون القهوة الصباحية في المكان المعتاد، يذهبون إلى أعمالهم، ويلتقون في المساء حتى ساعة محددة، فالليل ليس آمناً كما النهار، لكن الضوء في هذه الحالة يكشف السماء.
العلاقات الاجتماعية أصبحت حميمة أكثر، التكاتف من أجل البقاء في الداخل يخلق حالة مختلفة تماماً في العلاقات البشرية الاعتيادية.
ليلاً، في دمشق، يُعلن حظر خفي للتجوّل، وإن خرقه البعض، فالغالبيّة تلتزم به. تغيب الشمس وتغيب معها الحياة في شوارع المدينة. ماذا حلّ بمدينتي خلال ٣ أشهر؟ ربما لم يكن عليّ المغادرة مجدداً.
ربما كان علي أن أبقى. أن لا أغادر هذه الأُلفة.
ضحى حسن
NOW
يُختَم جواز سفرك فتتنفّس الصعداء، وتخرج مسرعاً. تقف بعيداً قليلاً في انتظار صديقك، يخرج، تركبان السيّارة وتبتسمان. لقد تجاوزتما المرحلة الأولى وها هي الطريق إلى دمشق مفتوحة أمامكما.
نشوة عارمة تصيبك ما إن تطأ قدماك الأراضي السوريّة، وتستمر إلى أن يستوقفك الحاجز الأوّل. شاب صغير يبدو أنه بلغ الحلم قبل قليل. شارباه لم ينبتا بعد. يطلب هويتيكما ويفتح صندوق السيّارة، يفتش السيّارة، وينظّم المرور. تبتسمان بتأهّب. بعد 100 كيلومتر، يستوقفك حاجز آخر: رجل في الـ50 من العمر ملامحه لطيفة تستغرب وجوده هنا، تسأل نفسك: "ألم يتقاعد بعد؟"، يشير بيده كي تمرّا من دون أن يرى الهوية. وبعد 50 كيلومتراً، حاجز مختلف يتمركز بجانبه رجل ثلاثيني قاسي الملامح يحمل في يده سيجارة يدخنها بـ"عنف"، على غرار ملامح وجهه. يطلب منك التوقف ويحدّق في وجهيكما. كأنه التقط فريسته. يفتش بدوره السيّارة ويدقّق بالهويات وقد فاحت منه رائحة تبغ عفن. يعطيك الإيعاز بالمغادرة.
تحاول تجاهل كل هذه الحواجز ووجه الرجل الجالس خلف الزجاج وهو يحرّك يده على الحاسوب للتأكد من هويّتك، وعين العسكري النهمة وهو ينفث الدخان ويحدّق بكما.
وأخيراً، هنا دمشق. تفترقان كلّ إلى وطنه داخل الوطن.
صراع المشاعر في "الشام" يوازي أصوات القصف المنبعثة من قاسيون. رغبة ملحّة بالتمسّك بفكرة امتياز المكان بصمود وصبر شعبه تهزّها بين لحظة وأخرى عيون أهلها المتأهّبة والمتعبة. الناس في دمشق يجولون في الشوارع متجاهلين بحكم العادة الطائرات المتوجّهة نحو هدف جديد.
سماء المدينة يعمّها ضباب رمادي تُفضّل أن تنسبه إلى حالة الطقس، في حين تبرّر لنفسك عدم قدرتك على الاتصال بمعظم الأرقام المسجّلة على هاتفك (معتقل- مسافر- منفي- مهجر- ميت). تحاول أن تلتقي بمن بقي منهم والذين بنفسك فيهم. تشعر بثقلك أمامهم وأنت تجلد نفسك بكل أسباب هروبك، غيابك عنهم، تحاول تجميلها وتغليفها فتصفعك ابتساماتهم أثناء التحدث عن كيفية الاعتياد على الحياة اليومية الجديدة على إيقاع الوضع الحالي والذي تغيّر بشكل كبير في الأشهر الثلاثة الاخيرة.
التقيت بأصدقائي في بيت جمعنا كثيراً قبل الثورة وخلالها. بدأ سباق الأحاديث عن أخبارهم وعمّا يجري، وكيف أصبحت "ربطة" الخبز هدية هذه الأيام. عن الشوارع التي علينا أن نسلكها وما قُطع منها، وموعد العودة إلى المنزل ليلاً، وأوقات قضوها معاً أثناء ارتفاع حدة القصف والمداهمات والاعتقالات.
هل سأكون هنا ليلة رأس السنة؟ سألني صديق، لتقطع حوارنا إجراءات الاستعداد لانقطاع الكهرباء واقتراب موعد المغادرة. حضنته بقوّة. حاولت أن أجفف دموعي قبل أن تسقط كما فعل هو. وافترقنا.
لقاءات كثيرة كهذه، كانت حميميّة وموجعة، وشعور بالذنب لا يفارقك، ورغبة بالبقاء لا يمنعك منها سواك. تحاول المضي في زيارتك تلك وإن كنت تمتعض من شعور أنك "سائح". إنها حقيقة، فأنت لم تعد تعيش تفاصيل ما يمر به مَن بقي هناك، يصدمك ارتفاع أسعار المواد الغذائية وغيرها، إغلاق طرق جديدة، ازدياد الحواجز، قطع الكهرباء المستمر، ورحيل آخرين.
كل هذا وأكثر، فأنت لم تعد تشاركهم حياتهم، أنت أصبحت في الخارج، تعلن حزنك، شوقك، غضبك، وحبك عن طريق وسائل الاتصال كأي مغترب آخر. تستمع الى أحاديثهم وتخبِّئ الأحداث التي تمر بها في البلد المجاور خجلاً، صديقك ما زال معتقلاً، وآخر رغم خطورة بقائه هناك ما زال متمسكاً بالبقاء وإن كانت نهاية تعنّته مقتله.
الصباح في دمشق سباق مع الزمن قبل أن يحلَّ المساء وتنام الشوارع. معظم الطرق مقفلة بمتاريس وحواجز، ما يشكّل زحمة سير خانقة. عليك أن تسير على قدميك لتتجنب الوقوف ساعات قبل أن تصل الى الشارع المقابل.
الأصدقاء هناك… أو من تبقى منهم ما زالوا يشربون القهوة الصباحية في المكان المعتاد، يذهبون إلى أعمالهم، ويلتقون في المساء حتى ساعة محددة، فالليل ليس آمناً كما النهار، لكن الضوء في هذه الحالة يكشف السماء.
العلاقات الاجتماعية أصبحت حميمة أكثر، التكاتف من أجل البقاء في الداخل يخلق حالة مختلفة تماماً في العلاقات البشرية الاعتيادية.
ليلاً، في دمشق، يُعلن حظر خفي للتجوّل، وإن خرقه البعض، فالغالبيّة تلتزم به. تغيب الشمس وتغيب معها الحياة في شوارع المدينة. ماذا حلّ بمدينتي خلال ٣ أشهر؟ ربما لم يكن عليّ المغادرة مجدداً.
ربما كان علي أن أبقى. أن لا أغادر هذه الأُلفة.
ضحى حسن
NOW