لقطة بعيدة لمدينة. الزمان أمس، أو ربما اليوم. الغبار يكسو التفاصيل في الصورة. العين تقفز للتحديق في الدخان الكثيف الرمادي الممزوج باللون الأحمر المتصاعد من ثلاثة مواقع في تلك المدينة.
- فلسطين اليوم: غارة اسرائيلية على مدينة غزة.
- لجان التنسيق المحلية في سوريا: طيران النظام السوري يشن غارة على مدينة حلب.
الموت ذاته مع اختلاف المنطقة الجغرافية
طفل صغير، يبدو أنه يبلغ من العمر الأربع أو الخمس سنوات، عيناه مغمضتان، على جسده لطخات دماء، المكان يبدو مألوفاً، الموت كذلك.
- فلسطين الآن: قتل طفل فلسطيني يبلغ من العمر خمس سنوات في غارة اسرائيلية على شمال قطاع غزة صباح الخميس.
- لجان التنسيق المحلية: مقتل طفل يبلغ من العمر خمس سنوات في غارة لطيران النظام السوري على الغوطة بريف دمشق.
تركض الأم في الصورة، يبدو أنها تصرخ، يبدو أنها تبكي، تحمل في يدها طفلاً، هل هو على قيد الحياة؟ هل تحمل جثة طفلها؟ .. ليست وحدها في الصورة، هناك رجال ونساء يحملون أطفالهم أيضاً، يبدو أنهم يصرخون، أظن أنهم يبكون. عد إلى الوراء قليلاً، المكان حولهم شبه مدمر، أحدهم ينظر إلى الوراء مثلك، هناك جثث على الأرض...
- شبكة قدس الإخبارية: مقتل 9 مدنيين في قطاع غزة جراء القصف الاسرائيلي على الأحياء السكنية.
- شبكة شام الإخبارية: مقتل 9 مدنيين في درعا البلد جراء قصف النظام السوري الأحياء السكنية.
في الموت
المخلوقات التي في الصور، أي المقتولون والجرحى والخائفون والمدمرون هي لـ (إنسان)، في حال جرّدنا عنهم فكرة الهوية، والتأطيرات السياسية، والتاريخ المرتبط بالمكان الذي يعيشون فيه.
قد نستطيع القول إن من يقتل الانسان المجرد هو الانسان الآخر المجرد، كما ربما يمكننا أن نقول إن مُشاهد الصور والأحداث هذه هو أيضاً إنسان مجرد، يحدّق في تفاصيل الصور.. أجساد ممزقة، دماء، دمار. هو يتأثر بدوره، وتتراكم عنده مشاعر من الحزن والألم سبّبها له إنسان، كما يحمل المُشاهد الانسان نتيجة هذه الأحداث وبحسب اتجاهاته وانتمائه وتاريخه، مشاعر غضب وحقد تجاه الانسان الآخر.
الغريزة التدميرية
منذ أن وُلدنا ونحن في طور إدراكنا للحياة وبناء الشخصية، نسمع قصصاً كثيرة عن الموت والقتل والمعارك والحروب.. الأخ الذي قتل أخاه من أجل السلطة، من أجل الثأر، الشرف، الغيرة، الملكية، مجازر يرتكبها بشر تجاه بشر آخرين، إبادات جماعية.. تاريخ هذا الموت والإجرام والقتل الذي ارتكبه الانسان تجاه الانسان يعود إلى بداية البشرية كما روت الأساطير. ومازال مستمراً نشهده ونعيشه نحن اليوم.
في حال اعتمدنا الرواية الميثولوجية الكبرى في سياق التكوين البشري الأصل، والتي تقول إن قابيل قتل أخاه هابيل بسبب الغضب والغيرة، (أوائل الجنس البشري الخاص بنا)، فهذا يجعل من تتابع المجريات التدميرية البشرية نتفق مع تلك الرؤية التي تزعم أن القتل أمر غرائزي عند الانسان.
إذاً قد نستطيع القول إن الإنسان لديه فطرية عدوانية، أي أن الانسان هو عدواني بطبعه ، وذلك لأنه منذ الأزل كان عدوانياً، كما الحيوانات تماماً، إلا أن الذئب الجائع يتوقف عن القتل بحال أحسّ بالاكتفاء، كما أن الدب لا يقتل 1000 دب بحال شعر أن دباً واحداً يهدد وجوده.
في الحياة
يحق للانسان أن يعيش بسلام، وأن تتمحور حياته حول البناء والتطور. نحن على يقين أن لا حياة مثالية ولا مدينة فاضلة كذلك، وأن هناك دائماً جوانب سوداء، طرقات مسدودة، خسارات، أزمات، لكن لماذا على الموت والانتماءات السياسة والجغرافية والأطر المجتمعية المتطرفة التي فُرضت علينا، أن تصبح هي الحياة الخاصة بنا بكل تداعياتها، وبالأجيال التي سبقتنا، والتي ستأتي لاحقاً. الصراعات اليوم وسابقاً هي من حددت مجريات يومياتنا ومشاعرنا، تلغينا وتعدمنا، تخلق أشكالاً عديدة من مشاعر الثأر والغضب والانتقام من العالم.
في الاعتياد على الدم – الأضاحي
هذه العادات لم يعد تطبيقها أو تنفيذها معمماً في الكثير من الدول إلا أن هذا لا ينفي تأثيرها تاريخياً
على اللاوعي البشري معظم الأديان القديمة والمحدثة قامت بانشاء روادع للنزعات العنيفة واستبدلت التجليات العدوانية بعادات وطقوس كالأضحية بالحيوانات والنذور.
يذبح المسلمون والمسيحيون واليهود وغيرهم الخرفان في الأعياد كتقليد، ولربما هذا يبدو أمراً طبيعياً على عكس الطريقة التي يقومون بها:
الخروف أمام المنزل، يخرج الأب والأم، الأطفال يشاهدون عملية النحر، يضربان رقبته بالسكين ويتركانه حتى يموت، الأطفال يراقبون حركة جسد الخروف والدماء التي تسيل من رقبته على الأرض حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، ومن ثم يطلبان منهم أن يقفزوا فوقه ويضعون لهم نقاطاً من دمه على رأسهم. هذا ليس كل شيء، حيث على غداء العيد يطبخون لهم أجزاء منه، ويطعمونه للأطفال الشهود على عملية النحر.
لربما كانت هذه التقاليد، أحد أنواع تفريغ العنف والإمكانيات العدوانية لدى البشرية، وتحويله إلى شكل مقبول اجتماعياً، أي تقديم الأضحية الحيوان بدلاً من الأضحية (الانسان) ، لكن هذا التبديل، لا ينفي أن فكرة الأضحية وتطبيقها قد تمكننا من افتراض أنه (أصبح لدينا أطفال اعتادوا ـ دون أن تدركَ كما الوالد الوالدة ـ أن يشاهدوا عملية النحر، الذبح والقتل، وكذلك تقليد شرب دم المسيح وإن كان الدم ليس حقيقاً لكن تكرار الفكرة، والطقس المرافق لها، وتقديم اللون الأحمر أي النبيذ للأطفال تحت مسمى دم المسيح، يجعلهم يعتادون دون أن يدركوا - على فكرة الدم وشربه من جسد ميت وإن كان القصد من الطقس تطهيري ولا يدعو للعنف بحد ذاته).
الاعتياد على الدم في الصوَر
نستيقظ صباحاً، نستقل وسيلة النقل إلى العمل، الراديو يعلن عن "قتلى في سوريا"، "قتلى في فلسطين"، "قتلى في العراق".. الخ. تصل إلى المكتب، تدخل إلى حسابك في إحدى وسائل التواصل الاجتماعية، أو تفتح أحد المواقع الإخبارية، تشاهد صوراً كثيرة، جثثاً، دماء وأشلاء.. في المرة الأولى، تتوسّع حدقتا العين، وتتسارع دقات قلبك، تشعر بالغثيان، بالحزن، بالألم والغضب.. بعد مدة، تشاهد صوراً مشابهة بل من الممكن أن تكون اكثر دموية، حدقتا عينيك لا تتوسعا، دقات قلبك تبقى منتظمة، أما مشاعرك يتغير تواترها الانفعالي بشكل متسارع، وتقصر مدتها الزمنية.
عدّاد الأرقام
فلسطين: حصيلة القتلى منذ بدء الغارات الاسرائيلة في الأيام القليلة الماضية هي 97 قتيلاً حتى اللحظة.
لجان التنسيق المحلية: حصيلة القتلى لليوم جراء قصف النظام السوري للمدن السورية هي 150 قتيلاً.
المستقبل دموي أيضاً
ما قامت به اسرائيل في فلسطين هو عدوان، وكذلك ما يقوم به النظام السوري بكل تأكيد، لكن على ما يبدو أن التاريخ الدموي لجنسنا البشري، وخاصة في العالم العربي، لا يبشّر إلا بمستقبل دموي آخر. (الانسان يقتل الانسان). أظن أنه في هذه الحالة قد تكون مقولة "الانسان وُجد كي يموت" صحيحة.