"بطّلت إلبس تنورة أو شحّاطة لإحساسي الدائم إنّي ممكن اضطّر بأي لحظة انبطح أو اركض"
بيروت- على الرغم من أن البقاء داخل المنزل في العاصمة دمشق يبدو الخيار الأمثل في ظل الأحداث الجارية، إلا أنّ متطلبات الحياة اليومية تفرض نفسها على سكان العاصمة، فاحتمال وقوع هاون أمامك أو خلفك أو حتى فوق رأسك، قائم كل الوقت، لذا لا بدّ من التفكير مطولاً في انتقاء الشوارع والطرقات التي يجب المرور بها، وتحديد الجهة الآمنة من الرصيف في تلك الشوارع، إذ أصبحت عملية الخروج إلى الشارع مرتبطة بتحضيرات واستعدادات لا بدّ منها.
يوميات دمشقية أغفلتها وسائل الإعلام التي تتصدر شاشاتها أو صفحاتها الأولى أعداد القتلى، بالإضافة إلى أخبار المجموعات المتطرفة الناشطة في سوريا. مي فتاة في العشرينيات أخذت قراراً واضحاً في البقاء داخل دمشق مع زوجها، تقول: "في بداية الأحداث كنت أشعر بالخوف. عندما بدأ الهاون يسقط بشكل يومي في "الشام"، كنت أمشي متلفتة حولي، أحدّق في السماء، وأنا أتخيل سيناريوهات مختلفة لردّة فعلي في حال سقوطه بقربي. ومع مرور الوقت لا أدري كيف تلاشى الخوف من الهاون. يبدو أنني قد اعتدته".
وتضيف مي: "ما زلت عند مروري في المناطق التي تتعرض لضربات الهاون بكثافة أحدّق في وجوه السكان لأحفظها، فلربما شاركتهم المصير ذاته في هذه اللحظة. وأفكر بالتفاصيل التي ستساعدهم في
تحديد هويتي بعد أن أتحول إلى جثة متفحمة أو أن أساعدهم لأتعرف على هويّة من أحب".
في دمشق، حيث لا يزال قلب المدينة معزولاً تغزوه مظاهر احتلال أمني جائر، المدينة الشاهدة على القصف المدفعي والجوي الكثيف لما حولها ولمحطيها وبعض أحيائها،"الشام" التي تسمع وترى وتطلَق منها ما يدمّر، تتعرّض منذ أشهر إلى ضربات يومية من قذائف الهاون والتفجيرات.
يوم الأربعاء 6 تشرين الثاني 2013 "يوم الهاون" كما أطلق عليه البعض، يقول أحمد الذي غادر دمشق ليلتحق بإحدى الجامعات في أوروبا "قمت بدراسة خط سيري مسبقاً بناءً على احتمالات سقوط القذائف، مشيتُ الى الجهة اليسرى، لتكون الأبنية التي على يميني في وجه القذائف، وبعد أن وصلت إلى منتصف شارع بغداد سمعت صوتاً هزّ المكان كلّه، ورأيت الدخان يتصاعد حيث كنت قبل قليل، نظرت إلى بائع المازوت الذي كان واقفاً بجانبي يحدق في الاتجاه ذاته قلت له:" إنشالله ما يكون حدا تأذى، والله يستر من وحدة تانية".
"بالشام ماعم يصير شي"، الجملة التي ما زلنا نسمعها حتى اللحظة. ربما هي صحيحة مقارنةً بالمحافظات الأخرى، لكن سكان هذه المدينة يتعرّضون للموت والاعتقال والحصار الأمني وتقسيم الشوارع بحواجز يحرسها في كثير من الأحيان مراهقون تحولوا الى شبيحة وعسكر.
يروي أمجد قائلاً:"أمس سمعت صوتاً قوياً يبدو أنه كان قريباً جداً، شممت رائحة البارود وتجاهلته، وقررت أن أذهب إلى عملي. ما إن وصلت هناك حتى بدأت أصوات القذائف تصدح وتقطع حديثي اليومي مع زملائي. غزت رائحة البارود أنفي لكنني أكملت الحديث اليومي، وبعد أن خرجت من العمل، وأثناء سيري مبتعداً، بدأت أشعر بضعف في ركبي، لكن لا وقت للخوف".
أمجد الثلاثيني الذي يهز رأسه ناهياً بشكل عفوي عندما يسأله أحدهم إن كان سيغادر دمشق، يقول: "لن أغادر البلد، لا نقاش في هذا الأمر". وفي ما يتعلق باحتمال الموت لم يعد الأمر كما كان عليه في البداية، أضاف: "عندما بدأنا نصادف الهاون والجرحى والقتلى والدماء في المدينة، بعد فترة أصبح التعامل معه أمراً لاإرادياً، وأن تنتهي حياتك في أية لحظة لم يعد موضوعاً نتحدث فيه مع من حولنا أو مع أنفسنا".
فكرة الموت الصادمة لم تعد موجودة في سوريا، كذلك في العاصمة أصبح الحديث عن احتمال وقوعه أمراً عادياً وبسيطاً إلى هذا الحد، لم يعد سقوط الهاون حدثاً ينفع لقصة مثيرة أو لحكاية يتناقلها سكان المدينة. أصبح الموت عادياً، مجرد حدث متكرر يتم ذكره ونتائجه في حديث يومي عابر أو ليُكتب على صفحات الفايسبوك بنفَسٍ لا يخلو من السخرية.
"صباح اليوم دخل هاون إلى المطبخ، لم يحدث لي شيء، لكن هناك 3 عناصر أمن صعدوا إلى البيت ليكشفوا على مخلّفات القذيفة وسرقوا هاتفي الشخصي". آخر قال: "سقط هاون على الشرفة فوق منزلنا، أنا لم أمت لكن ماتت جارتنا، وقُطعت رأس السلحفاة خاصتي".
وبعد السؤال عن الحال في مكالمة هاتفية، تكون الإجابة في معظم الأوقات "أتذكرين بائع النظارات جانب مدرستك؟ لقد مات بالهاون"، أو "سقط هاون على المحل الذي كنت فيه قبل قليل"، وأخرى تقول: "دمّر الهاون سيارتي أمام المنزل"، وآخر يسأل: "أتذكر العجوز الذي يركن سيارات الشركة؟ أخبرني زميله أنه خسر قدمه عندما وقع الهاون على مقربة منه .. يجيب: الله ستروا، منيح إنو لساتو عايش".
ضحى حسن
NOW
بيروت- على الرغم من أن البقاء داخل المنزل في العاصمة دمشق يبدو الخيار الأمثل في ظل الأحداث الجارية، إلا أنّ متطلبات الحياة اليومية تفرض نفسها على سكان العاصمة، فاحتمال وقوع هاون أمامك أو خلفك أو حتى فوق رأسك، قائم كل الوقت، لذا لا بدّ من التفكير مطولاً في انتقاء الشوارع والطرقات التي يجب المرور بها، وتحديد الجهة الآمنة من الرصيف في تلك الشوارع، إذ أصبحت عملية الخروج إلى الشارع مرتبطة بتحضيرات واستعدادات لا بدّ منها.
يوميات دمشقية أغفلتها وسائل الإعلام التي تتصدر شاشاتها أو صفحاتها الأولى أعداد القتلى، بالإضافة إلى أخبار المجموعات المتطرفة الناشطة في سوريا. مي فتاة في العشرينيات أخذت قراراً واضحاً في البقاء داخل دمشق مع زوجها، تقول: "في بداية الأحداث كنت أشعر بالخوف. عندما بدأ الهاون يسقط بشكل يومي في "الشام"، كنت أمشي متلفتة حولي، أحدّق في السماء، وأنا أتخيل سيناريوهات مختلفة لردّة فعلي في حال سقوطه بقربي. ومع مرور الوقت لا أدري كيف تلاشى الخوف من الهاون. يبدو أنني قد اعتدته".
وتضيف مي: "ما زلت عند مروري في المناطق التي تتعرض لضربات الهاون بكثافة أحدّق في وجوه السكان لأحفظها، فلربما شاركتهم المصير ذاته في هذه اللحظة. وأفكر بالتفاصيل التي ستساعدهم في
تحديد هويتي بعد أن أتحول إلى جثة متفحمة أو أن أساعدهم لأتعرف على هويّة من أحب".
في دمشق، حيث لا يزال قلب المدينة معزولاً تغزوه مظاهر احتلال أمني جائر، المدينة الشاهدة على القصف المدفعي والجوي الكثيف لما حولها ولمحطيها وبعض أحيائها،"الشام" التي تسمع وترى وتطلَق منها ما يدمّر، تتعرّض منذ أشهر إلى ضربات يومية من قذائف الهاون والتفجيرات.
يوم الأربعاء 6 تشرين الثاني 2013 "يوم الهاون" كما أطلق عليه البعض، يقول أحمد الذي غادر دمشق ليلتحق بإحدى الجامعات في أوروبا "قمت بدراسة خط سيري مسبقاً بناءً على احتمالات سقوط القذائف، مشيتُ الى الجهة اليسرى، لتكون الأبنية التي على يميني في وجه القذائف، وبعد أن وصلت إلى منتصف شارع بغداد سمعت صوتاً هزّ المكان كلّه، ورأيت الدخان يتصاعد حيث كنت قبل قليل، نظرت إلى بائع المازوت الذي كان واقفاً بجانبي يحدق في الاتجاه ذاته قلت له:" إنشالله ما يكون حدا تأذى، والله يستر من وحدة تانية".
"بالشام ماعم يصير شي"، الجملة التي ما زلنا نسمعها حتى اللحظة. ربما هي صحيحة مقارنةً بالمحافظات الأخرى، لكن سكان هذه المدينة يتعرّضون للموت والاعتقال والحصار الأمني وتقسيم الشوارع بحواجز يحرسها في كثير من الأحيان مراهقون تحولوا الى شبيحة وعسكر.
يروي أمجد قائلاً:"أمس سمعت صوتاً قوياً يبدو أنه كان قريباً جداً، شممت رائحة البارود وتجاهلته، وقررت أن أذهب إلى عملي. ما إن وصلت هناك حتى بدأت أصوات القذائف تصدح وتقطع حديثي اليومي مع زملائي. غزت رائحة البارود أنفي لكنني أكملت الحديث اليومي، وبعد أن خرجت من العمل، وأثناء سيري مبتعداً، بدأت أشعر بضعف في ركبي، لكن لا وقت للخوف".
أمجد الثلاثيني الذي يهز رأسه ناهياً بشكل عفوي عندما يسأله أحدهم إن كان سيغادر دمشق، يقول: "لن أغادر البلد، لا نقاش في هذا الأمر". وفي ما يتعلق باحتمال الموت لم يعد الأمر كما كان عليه في البداية، أضاف: "عندما بدأنا نصادف الهاون والجرحى والقتلى والدماء في المدينة، بعد فترة أصبح التعامل معه أمراً لاإرادياً، وأن تنتهي حياتك في أية لحظة لم يعد موضوعاً نتحدث فيه مع من حولنا أو مع أنفسنا".
فكرة الموت الصادمة لم تعد موجودة في سوريا، كذلك في العاصمة أصبح الحديث عن احتمال وقوعه أمراً عادياً وبسيطاً إلى هذا الحد، لم يعد سقوط الهاون حدثاً ينفع لقصة مثيرة أو لحكاية يتناقلها سكان المدينة. أصبح الموت عادياً، مجرد حدث متكرر يتم ذكره ونتائجه في حديث يومي عابر أو ليُكتب على صفحات الفايسبوك بنفَسٍ لا يخلو من السخرية.
"صباح اليوم دخل هاون إلى المطبخ، لم يحدث لي شيء، لكن هناك 3 عناصر أمن صعدوا إلى البيت ليكشفوا على مخلّفات القذيفة وسرقوا هاتفي الشخصي". آخر قال: "سقط هاون على الشرفة فوق منزلنا، أنا لم أمت لكن ماتت جارتنا، وقُطعت رأس السلحفاة خاصتي".
وبعد السؤال عن الحال في مكالمة هاتفية، تكون الإجابة في معظم الأوقات "أتذكرين بائع النظارات جانب مدرستك؟ لقد مات بالهاون"، أو "سقط هاون على المحل الذي كنت فيه قبل قليل"، وأخرى تقول: "دمّر الهاون سيارتي أمام المنزل"، وآخر يسأل: "أتذكر العجوز الذي يركن سيارات الشركة؟ أخبرني زميله أنه خسر قدمه عندما وقع الهاون على مقربة منه .. يجيب: الله ستروا، منيح إنو لساتو عايش".
ضحى حسن
NOW