تفصلنا عن الذكرى الثالثة للثورة السورية 48 ساعة تقريباً، عام ثالث انقضى مشبعاً بالدم والدمار والغياب، عام مضى وأنا خارج دمشق كملايين مثلي، أتشبّث بالتفاصيل بقوة خشية أن تخونني ذاكرتي يوماً، عن تلك المدينة التي حضنت طفولتي ومراهقتي وشبابي، وحريتي وبداية هرمي المبكر.
بيروت - الهرم المبكر: تُحاول إمساك القلب بقبضة اليد كي لا تقع في هلوسات الحنين المفجع إلى تلك القهوة الصباحية ما بين شارع العابد والشعلان، وتجمّعات الأصدقاء، والأحلام الصغيرة في البقاء والعمل، ومخططات قديمة عن المستقبل، وعاما الثورة هناك. تبذل جهداً كبيراً في محاولة خلق عالمِك الصغير هنا في بيروت، بحثاً عن منزل وعمل وبعض الأصدقاء والأماكن التي تذهب إليها، لأنك تعرف أن هناك وجوهاً تشاطرك البحث.. البحث عمّا يشبه بلدك. لكن مكانك الجديد ليس إلا ممراً للكثير من الأصدقاء في رحلة القادمين والمغادرين، فتتحوّل إلى محطة قطار (ترانزيت). وبعد أشهر قليلة، تخونك قدماك، ويضعف جسدك وتخور قواك، فأنتَ اليوم هرمٌ للغاية.
الذاكرة مليئة بالثقوب، العودة إليها تكلّفك كل الطاقة التي بقيت لديك، وتلاشي الكثير من الصور يدفعك للتأكد من أنّك بدأت تمر بالمرحلة الأخيرة من التطور البشري، الكهولة.
الكويت – دمشق: تختزن ذاكرتي من طفولتي صوراً ضبابية، تعود لسنة 1991، عن الملاجئ والحدود، عن تلك الشاحنة المحمّلة بأمتعتنا، التي ظننت حينها أنّها تلاحقنا طوال الطريق من الكويت إلى دمشق، مروراً بدولتين عربيّتين، جعَلت إحداها من السيارة التي كان يقودها والدي غرفةً ننام فيها تلك الليلة، خشية أن ندخل أراضيها ونستقر فيها نحن اللاجئين الفلسطينين السوريين. وتفاصيل أخرى لا أتذكر منها إلا ما أخبروني به، إلى تلك اللحظة التي أُغلِق عليّ باب الزنزانة في 25-3-2011، فاختفى الحاضر وجاء الماضي جلياً متمثلاً بنحيب والدتي الهادئ في المقعد الأمامي طوال رحلة الأيام الثلاثة تلك، وأنا في الخامسة من عمري متشبثة بدمية صغيرة، وعينا والدي اللتان لفح السواد أطرافهما، ومقتل عمتي وابنتها، ابن خالتي، وخالي حينها.
دمشق: فُتح باب الزانزنة، وتم جرّي مغمضة العينيّن مكبّلة اليدين إلى غرفة التحقيق، وهناك حمّلوني غربة كنت أتجاهلها ضمنياً "هاي مو بلدك، بتحبّي نرجع نزتّك على الحدود". كان طريق العودة إلى الزوايا الأربع طويلاً وبارداً وأكثرا اسوداداً، ارتطمتُ خلالها بأجساد مكبّلة ومبعثرة على أطراف الممر الطويل، وبين الأنفاس المتقطّعة لمن هم خلف الأبواب بعد عودتهم من جلسات التعذيب. التعذيب ذاته تعرّض له الآلاف من المدنيين السلميين، والكثير من أصدقائي.
بيروت: قال لي أحد الأصدقاء السوريين "بتحسي بيروت اخت الشام بس من غير أب". شقيقة مدينتي تدير ظهرها للبحر ولقاطنيها، أبناء بيروت من جيلي يحملون ثقلاً أيضاً، وثقوباً مازالت تتناثر على جدران الأبنية القديمة، حكايا احتلال النظام السوري في لبنان، حدثوني عن الحواجز، عن الملاجئ والقصف، عن مقتل أصدقاء واختفاء آخرين، عن النظام السوري، وما قام به في لبنان، الذي يشبه بشكل أو بآخر ما يقوم به في سوريا. وما قامت به إسرائيل في لبنان، ويشبه بشكل أو بآخر ما قام به النظام السوري في بلدنا، لكن بشكل أكثر فجاجة...
دمشق: أرجل متراصفة، ظلال الأجسام المتمايلة المتلاصقة، الأيدي على الأكتاف، الصوت يعلو شيئاً فشيئاً "سكابا يا دموع العين سكابا على شهداء سوريا وشبابا"، وكأننا خارج الزمن، القلوب تخفق بشدة، والكف يضغط على الكتف الذي يسند نفسه عليه وكأنه يقول "لا تخشَ شيئاً أنا هنا.. بجانبك"، عرس ليلي جال معظم أحياء المدينة طوال عامي الثورة.
شعرت برأسي يرتطم أرضاً، لم أتحرك فوراً، استطعت أن ألمح من تحت "عصابة العينين" ممراً طويلاً وأقداماً ساكنة. كان البرد في أشُدِّه حينها، لا أدري كم مرّ من الوقت وأنا أقف هكذا، اقتربت قدمان باتجاهي، شدني من شعري ورفعني به، أمسك بكتفي ودفعني إلى الحائط، فسمعت طقطقة عظام أنفي، "وجِّك على الحيط".
بيروت: المكان المحمل بالتناقضات، والتي تشبهنا كثيراً هذه الأيام، هو ربما انعكاس للحروب التي مرّوا بها هنا والتي نعيشها نحن هناك، ولكن بشكل مختلف، مدينة البحر هذه فيها الكثير من الحبّ ومشاعر الألفة، الكثير من الطائفية ونزعات عنصرية، يواجهك هذا الخليط يومياً بكل ما تقوم به، قالت صديقة لبنانية "من بعد ما صار عندي أصحاب سوريين ببيروت، وصرت زورن ببيوتن، كأنو رجعت اكتشفت المدينة عن جديد، وتعرّفت على حارات (متل ما بسموها السوريين) ما كنت بعرفها قبل". فيما قال لي أحدهم في بيروت "أنتم السوريون ما رح تتركونا بحالنا، خربتوا البلد، جبتوا التفجيرات وخليتوا البلد ترجع تعيش بحرب، نحن كل شي بدنا ياه انو تطلعوا من هون ونرجع نعيش بأمان". هذا هو الحال.
دمشق - (من مقال سابق): الساعة 10 ليلاً، في رأسي مدينة "صُوَر"، وصوت واحد يتردّد بقّوة: "أنا ما رح موت". أذكره جيداً ... لقاء العيون في تلك الليلة كان صعباً جداً، كما الوقوف تماماً حينها.
ثقل الموت قاسٍ، يمكن إدراكه في وجوه الأصدقاء المبعثرة على سلم المنزل الطويل الذي يبدو صاعداً إلى السماء، وفي صمت المدينة الصارم المقطوع بدقات قلوبنا التي أصبحت واحدة، وأصوات تدحرج القذائف على أطراف المدينة، وجه صديقتي، "حبيبته"، وملامحه معاً. كان النكران سيد الموقف في تلك الليلة، كل شيء كان يبدو زائفاً.. مقطع الفيديو.. مكالمات واتصالات تؤكد ما حدث.
صفحات الفايسبوك تكذّب، المحطات الإخبارية تكذّب.. حتى نحن الواقفين على الدرج الطويل كنّا نكذّب مردّدين "ليس هو بالتأكيد.. لا يمكن ذلك"، أن "نرى جسد صديقنا صامتاً مدوياً راحلاً عنا".
الهوية المؤقّتة – فلسطين – دمشق – بيروت: اسمي ضحى حسن، "حسن" ليست كنيتي الحقيقة، فالواقع أثناء خروج جدّي من فلسطين، كتب بعجلة اسمه اسم والده واسم جده ونسي الكنية، لا أدري لمَ لم يسأل أبناؤه لاحقاً عن كنيتهم الأصلية، لكنهم كانوا يتحدثون كثيراً عن حيفا ويافا، أعادوا قصّ الحكايا ذاتها التي رواها لي جدي عندما كنت صغيرة، وعندما عرفت أنني لا أحمل اسم العائلة الحقيقي، كان الأوان قد فات، إذ قال لي جدي الهرِم "اسم العائلة هو يا إما ... أو ... أو ... مش متذكّر، بس نحن كنا عيلة كبيرة بفلسطين، من حيفا"، وفي جلسة أخرى قال "يا بنتي نحن أصلنا من لبنان، بس سافروا أجدادنا على فلسطين، بعدين نزحنا وقت 48، رحنا على الشام، بعدين على الكويت، وبحرب الخليج رجعنا على بلدنا الشام".
يبدو أن قصة الأصول اللبنانية، تعود إلى زوجة جدي اللبنانية أي جدتي، التي توفت قبله بأعوام، فما كان منه في هذا العمر وقبل وفاته بأيام إلا أن ينسب أصله إليها...
اهتمامي بالقضية الفلسطينية وحبي لفلسطين، لم ينبعا من أصولي الفلسطينية، فأنا لم أزر فلسطين يوماً كما لم يفعل والدي، هو ذاته اهتمام السوريين واللبنانيين وغيرهم بالقضية، والذين ضحوا بحياتهم أيضاً من أجلها. "وثيقة السفر لاجئ فلسطيني سوري" وهوية مؤقتة هي ما أحمل، لكنني في سوريا لم أشعر باللجوء يوماً، ذاكرتي تحمل "خريطة حياتي في دمشق منذ عامي الخامس حتى السابع والعشرين، هذه الذاكرة هي جواز سفري وهويتي الدائمة".
أما في لبنان فعام واحد كان كافياً بأن يشعرني باللجوء الفلسطيني والسوري معاً، الاصطدام المستمر بالأسئلة عن المكان والهوية والدين، من أين أنت من "الشام"، من وين من الشام؟ من "فلسطين"، يعني انت فلسطينية؟ أنا "فلسطينية وسورية"، بعضهم قال "أنت فلسطينية مش سورية"، وبعضهم الآخر قال "أنتِ سورية مش فلسطينية، لأنو بحياتك ما شفتِ فلسطين"، إلى جانب الارتطام بالقانون الذي يميز، من حيث الإقامة، وجود السوري في لبنان عن الفلسطيني السوري في لبنان.
في مكان واسع جداً، حقيبة سفر نصف مغلقة بدأ يكسوها الغبار، وإلى جانبها حقائب أخرى، يد تدفع بحقيبة جديدة إلى جانبهم، تلقي الواصلة الجديدة نظرة إلى باقي الحقائب، تمسك الحقيبة سحابها بقوة فهي تظن أنها ستغادر قريباً.
ضحى حسن
NOW
بيروت - الهرم المبكر: تُحاول إمساك القلب بقبضة اليد كي لا تقع في هلوسات الحنين المفجع إلى تلك القهوة الصباحية ما بين شارع العابد والشعلان، وتجمّعات الأصدقاء، والأحلام الصغيرة في البقاء والعمل، ومخططات قديمة عن المستقبل، وعاما الثورة هناك. تبذل جهداً كبيراً في محاولة خلق عالمِك الصغير هنا في بيروت، بحثاً عن منزل وعمل وبعض الأصدقاء والأماكن التي تذهب إليها، لأنك تعرف أن هناك وجوهاً تشاطرك البحث.. البحث عمّا يشبه بلدك. لكن مكانك الجديد ليس إلا ممراً للكثير من الأصدقاء في رحلة القادمين والمغادرين، فتتحوّل إلى محطة قطار (ترانزيت). وبعد أشهر قليلة، تخونك قدماك، ويضعف جسدك وتخور قواك، فأنتَ اليوم هرمٌ للغاية.
الذاكرة مليئة بالثقوب، العودة إليها تكلّفك كل الطاقة التي بقيت لديك، وتلاشي الكثير من الصور يدفعك للتأكد من أنّك بدأت تمر بالمرحلة الأخيرة من التطور البشري، الكهولة.
الكويت – دمشق: تختزن ذاكرتي من طفولتي صوراً ضبابية، تعود لسنة 1991، عن الملاجئ والحدود، عن تلك الشاحنة المحمّلة بأمتعتنا، التي ظننت حينها أنّها تلاحقنا طوال الطريق من الكويت إلى دمشق، مروراً بدولتين عربيّتين، جعَلت إحداها من السيارة التي كان يقودها والدي غرفةً ننام فيها تلك الليلة، خشية أن ندخل أراضيها ونستقر فيها نحن اللاجئين الفلسطينين السوريين. وتفاصيل أخرى لا أتذكر منها إلا ما أخبروني به، إلى تلك اللحظة التي أُغلِق عليّ باب الزنزانة في 25-3-2011، فاختفى الحاضر وجاء الماضي جلياً متمثلاً بنحيب والدتي الهادئ في المقعد الأمامي طوال رحلة الأيام الثلاثة تلك، وأنا في الخامسة من عمري متشبثة بدمية صغيرة، وعينا والدي اللتان لفح السواد أطرافهما، ومقتل عمتي وابنتها، ابن خالتي، وخالي حينها.
دمشق: فُتح باب الزانزنة، وتم جرّي مغمضة العينيّن مكبّلة اليدين إلى غرفة التحقيق، وهناك حمّلوني غربة كنت أتجاهلها ضمنياً "هاي مو بلدك، بتحبّي نرجع نزتّك على الحدود". كان طريق العودة إلى الزوايا الأربع طويلاً وبارداً وأكثرا اسوداداً، ارتطمتُ خلالها بأجساد مكبّلة ومبعثرة على أطراف الممر الطويل، وبين الأنفاس المتقطّعة لمن هم خلف الأبواب بعد عودتهم من جلسات التعذيب. التعذيب ذاته تعرّض له الآلاف من المدنيين السلميين، والكثير من أصدقائي.
بيروت: قال لي أحد الأصدقاء السوريين "بتحسي بيروت اخت الشام بس من غير أب". شقيقة مدينتي تدير ظهرها للبحر ولقاطنيها، أبناء بيروت من جيلي يحملون ثقلاً أيضاً، وثقوباً مازالت تتناثر على جدران الأبنية القديمة، حكايا احتلال النظام السوري في لبنان، حدثوني عن الحواجز، عن الملاجئ والقصف، عن مقتل أصدقاء واختفاء آخرين، عن النظام السوري، وما قام به في لبنان، الذي يشبه بشكل أو بآخر ما يقوم به في سوريا. وما قامت به إسرائيل في لبنان، ويشبه بشكل أو بآخر ما قام به النظام السوري في بلدنا، لكن بشكل أكثر فجاجة...
دمشق: أرجل متراصفة، ظلال الأجسام المتمايلة المتلاصقة، الأيدي على الأكتاف، الصوت يعلو شيئاً فشيئاً "سكابا يا دموع العين سكابا على شهداء سوريا وشبابا"، وكأننا خارج الزمن، القلوب تخفق بشدة، والكف يضغط على الكتف الذي يسند نفسه عليه وكأنه يقول "لا تخشَ شيئاً أنا هنا.. بجانبك"، عرس ليلي جال معظم أحياء المدينة طوال عامي الثورة.
شعرت برأسي يرتطم أرضاً، لم أتحرك فوراً، استطعت أن ألمح من تحت "عصابة العينين" ممراً طويلاً وأقداماً ساكنة. كان البرد في أشُدِّه حينها، لا أدري كم مرّ من الوقت وأنا أقف هكذا، اقتربت قدمان باتجاهي، شدني من شعري ورفعني به، أمسك بكتفي ودفعني إلى الحائط، فسمعت طقطقة عظام أنفي، "وجِّك على الحيط".
بيروت: المكان المحمل بالتناقضات، والتي تشبهنا كثيراً هذه الأيام، هو ربما انعكاس للحروب التي مرّوا بها هنا والتي نعيشها نحن هناك، ولكن بشكل مختلف، مدينة البحر هذه فيها الكثير من الحبّ ومشاعر الألفة، الكثير من الطائفية ونزعات عنصرية، يواجهك هذا الخليط يومياً بكل ما تقوم به، قالت صديقة لبنانية "من بعد ما صار عندي أصحاب سوريين ببيروت، وصرت زورن ببيوتن، كأنو رجعت اكتشفت المدينة عن جديد، وتعرّفت على حارات (متل ما بسموها السوريين) ما كنت بعرفها قبل". فيما قال لي أحدهم في بيروت "أنتم السوريون ما رح تتركونا بحالنا، خربتوا البلد، جبتوا التفجيرات وخليتوا البلد ترجع تعيش بحرب، نحن كل شي بدنا ياه انو تطلعوا من هون ونرجع نعيش بأمان". هذا هو الحال.
دمشق - (من مقال سابق): الساعة 10 ليلاً، في رأسي مدينة "صُوَر"، وصوت واحد يتردّد بقّوة: "أنا ما رح موت". أذكره جيداً ... لقاء العيون في تلك الليلة كان صعباً جداً، كما الوقوف تماماً حينها.
ثقل الموت قاسٍ، يمكن إدراكه في وجوه الأصدقاء المبعثرة على سلم المنزل الطويل الذي يبدو صاعداً إلى السماء، وفي صمت المدينة الصارم المقطوع بدقات قلوبنا التي أصبحت واحدة، وأصوات تدحرج القذائف على أطراف المدينة، وجه صديقتي، "حبيبته"، وملامحه معاً. كان النكران سيد الموقف في تلك الليلة، كل شيء كان يبدو زائفاً.. مقطع الفيديو.. مكالمات واتصالات تؤكد ما حدث.
صفحات الفايسبوك تكذّب، المحطات الإخبارية تكذّب.. حتى نحن الواقفين على الدرج الطويل كنّا نكذّب مردّدين "ليس هو بالتأكيد.. لا يمكن ذلك"، أن "نرى جسد صديقنا صامتاً مدوياً راحلاً عنا".
الهوية المؤقّتة – فلسطين – دمشق – بيروت: اسمي ضحى حسن، "حسن" ليست كنيتي الحقيقة، فالواقع أثناء خروج جدّي من فلسطين، كتب بعجلة اسمه اسم والده واسم جده ونسي الكنية، لا أدري لمَ لم يسأل أبناؤه لاحقاً عن كنيتهم الأصلية، لكنهم كانوا يتحدثون كثيراً عن حيفا ويافا، أعادوا قصّ الحكايا ذاتها التي رواها لي جدي عندما كنت صغيرة، وعندما عرفت أنني لا أحمل اسم العائلة الحقيقي، كان الأوان قد فات، إذ قال لي جدي الهرِم "اسم العائلة هو يا إما ... أو ... أو ... مش متذكّر، بس نحن كنا عيلة كبيرة بفلسطين، من حيفا"، وفي جلسة أخرى قال "يا بنتي نحن أصلنا من لبنان، بس سافروا أجدادنا على فلسطين، بعدين نزحنا وقت 48، رحنا على الشام، بعدين على الكويت، وبحرب الخليج رجعنا على بلدنا الشام".
يبدو أن قصة الأصول اللبنانية، تعود إلى زوجة جدي اللبنانية أي جدتي، التي توفت قبله بأعوام، فما كان منه في هذا العمر وقبل وفاته بأيام إلا أن ينسب أصله إليها...
اهتمامي بالقضية الفلسطينية وحبي لفلسطين، لم ينبعا من أصولي الفلسطينية، فأنا لم أزر فلسطين يوماً كما لم يفعل والدي، هو ذاته اهتمام السوريين واللبنانيين وغيرهم بالقضية، والذين ضحوا بحياتهم أيضاً من أجلها. "وثيقة السفر لاجئ فلسطيني سوري" وهوية مؤقتة هي ما أحمل، لكنني في سوريا لم أشعر باللجوء يوماً، ذاكرتي تحمل "خريطة حياتي في دمشق منذ عامي الخامس حتى السابع والعشرين، هذه الذاكرة هي جواز سفري وهويتي الدائمة".
أما في لبنان فعام واحد كان كافياً بأن يشعرني باللجوء الفلسطيني والسوري معاً، الاصطدام المستمر بالأسئلة عن المكان والهوية والدين، من أين أنت من "الشام"، من وين من الشام؟ من "فلسطين"، يعني انت فلسطينية؟ أنا "فلسطينية وسورية"، بعضهم قال "أنت فلسطينية مش سورية"، وبعضهم الآخر قال "أنتِ سورية مش فلسطينية، لأنو بحياتك ما شفتِ فلسطين"، إلى جانب الارتطام بالقانون الذي يميز، من حيث الإقامة، وجود السوري في لبنان عن الفلسطيني السوري في لبنان.
في مكان واسع جداً، حقيبة سفر نصف مغلقة بدأ يكسوها الغبار، وإلى جانبها حقائب أخرى، يد تدفع بحقيبة جديدة إلى جانبهم، تلقي الواصلة الجديدة نظرة إلى باقي الحقائب، تمسك الحقيبة سحابها بقوة فهي تظن أنها ستغادر قريباً.
ضحى حسن
NOW