حدَّقَ في وجوه مَن حوله، نظرَ إلى الجسد المغطّى بالكفن، وجه صديقه النائم؛ قفز إلى الحفرة أمامه، مدَّ جسده بالكامل فيها، لامس بأطراف أصابعه حواف القبر، وحفّ بقدميه التراب، عيناه تحفران السماء، غطّى بكاءه. تأكد من اتساع القبر لجثمان صديقه "جفرا، سامحني، السما ما بتسعك حتى يسعك القبر".
"كل شبّ استشهد بالمخيم هو جزء من حياتي، خسارتن خلّتني فكّر بقيمة الحياة وبأهمية إنّو عيش أو موت"، عبد الله الذي يبلغ من العمر 18 عاماً دَفن مع محمد وابراهيم أصدقاء كثراً، "علاقتي مع الشهداء ما بلّشت مع الثورة. بسّ الثورة قرّبتنا من بعض أكتر. كنا نحاول خلق طقوس لكسر الحصار، مرّات بقعدة إبريق شاي، بسّ الصواريخ كانت دايماً تاخد صديق ورا صديق، ونحن نغيّر البيت ورا البيت".
حاصر النظام السوري مخيم اليرموك لما يقارب العام، تعرّض خلالها المخيم لقصف عنيف أدّى إلى مقتل العديد من المدنيين. كما أغلق النظام كل منافذ إدخال المواد الغذائية والطبية ما أسفر عن مقتل المئات جوعاً.
في الموت
تتسع حدقتا عينيه، قلبه يدق بهدوء، ببطء شديد، كأنّه على وشك أن يتوقف؛ الرصاصة تقترب أكثر وأكثر حتى اقتحمت رأس الشاب، الكاميرا مازالت تدور، قفز ليسحب جثة صديقه، وإذ برصاصتين تُخرجان "أمعاءه" إلى خارج جسده؛ يجرُّ نفسه للأسفل سانداً بكفّه ما يخرج من معدته، "استشهد منير".
"خسرت كتير.. يمكن الخسارة تبعي هي ربح لإلن، لأنو الموت ما بوجّع غير الأحياء"، أُصيب الفتى العشريني في بطنه أثناء قيامه بتصوير الاشتباكات. "إسمي ابراهيم، فلسطيني سوري من حيفا"، هكذا عرّف عن نفسه، "أنا ولدت بسوريا، بحس حالي إبن القضية، إذا السوري عندو مبرر ليكون بالثورة أنا عندي اتنين، أول واحد لأني فلسطيني وتاني واحد لأني سوري".
عاش اليرموك 3 محاولات لـ"الهدنة"، كانت نتيجة الأخيرة منها فكّ الحصار التمويني فقط عن المخيم، في حين مازال المخيم يقبع في الظلام بعد مغيب الشمس، إذ لا كهرباء إلا عبر مولدات يتمّ تشغيلها بفترات محددة بسبب نقص المازوت والبنزين، كذلك الماء ومعظم الخدمات الأساسية.
في الغياب
ليلة هادئة للغاية. يقترب من المجموعة التي تقوم بخَبْزِ "خُبز العدس"، يأكل قضمة منها، يلتفت نحو صديقه أحمد الذي يجلس قريباً منه يعمل على حاسوبه الشخصي، وإذا بصوت صاروخ يقترب بسرعة هائلة منهم، يهتزّ المكان، يدير وجهه نحو باقي أصدقائه، يلتفت مجدداً ويرى الصخرة الكبيرة تتهاوى على أحمد، ينظر إلى الأعلى وإذا بصخرة أقل حجماً تهجم على رأسه، يسقط. دقائق ويُحمل جسده، "مجد، أحمد.. أحمد"...
"المخيم بالنسبة إلي هو وطن بكل معنى الكلمة، فيه انولدنا، وتربّينا، ودرسنا، وبنينا فيه علاقات صداقة، وفيه حبَّينا"، قال محمد، الصديق الثالث الذي شهد أيضاً الموت حيّاً، "كل ما يستشهد واحد من صحابي كان يصير معي رهاب من المكان، بس بنفس الوقت كنت إتمسك فيه أكتر".
عن الحياة
في أحد شوارع الحي، تجلس المنازل المدمرة على طرفي الطريق، تحمل بين شقوقها حكايات وذكريات وبقايا قذائف، وفي المنتصف تماماً هناك، تلتف مجموعة من الشبان والأطفال حول "أيهم"، تعلو الموسيقى شيئاً فشيئاً، كذلك أصواتهم، مشهد سوريالي، الأسود يتلاشى، ويتحول المكان إلى حديقة تعود فيها الحياة لدقائق.
"أيهم" يجول اليرموك مع البيانو في محاولة للاستمرار، وكذلك عدد كبير من الشبان والشابات الذين يحاولون بشكل يومي من خلال نشاطات مع الأطفال والمسنين، إلى جانب قيام المؤسسات الموجودة في المخيم بإقامة ورشات تدريبية وتعليمية تتعلق بمهارات التفكير والعمل الجماعي والمواطنة والإعلام والتمريض.
"تعلمنا بالحصار إنّو 5 ساعات كهرباء إذا انوجد المازوت، أحلى من 24 ساعة، وصوت المولّد حنون"، يقول عبد الله، "صرنا نحسّ بقيمة الاشياء، بقيمة الاعشاب يلّلي على الارض، بقيمة الورق على الشجر، بقيمة البسينات والكلاب، لأنو ممكن يكونوا وجبة إلك بيوم ما"، ويكمل: "الحصار علّمنا إنّو لواح الصبّار بتصير أكل. بس الضربة على الشيف. وإنّو الشاي بلا سكر أطيب، والناس هبل ما بتعرف هاد السر".
عبد الله، محمد، وإبراهيم، يكملون اليوم ما بدأوه مع رفاقهم، بالقرب جداً من شواهد قبور الأحبة، "أهم قرار أخدناه نحن 3 الأخيرين، إنو نروح سوى ونيجي سوى، بحال صار شي، يصير لالنا مع بعض، ماعاد نتحمل خسارة جديدة بالمطلق".
"كل شبّ استشهد بالمخيم هو جزء من حياتي، خسارتن خلّتني فكّر بقيمة الحياة وبأهمية إنّو عيش أو موت"، عبد الله الذي يبلغ من العمر 18 عاماً دَفن مع محمد وابراهيم أصدقاء كثراً، "علاقتي مع الشهداء ما بلّشت مع الثورة. بسّ الثورة قرّبتنا من بعض أكتر. كنا نحاول خلق طقوس لكسر الحصار، مرّات بقعدة إبريق شاي، بسّ الصواريخ كانت دايماً تاخد صديق ورا صديق، ونحن نغيّر البيت ورا البيت".
حاصر النظام السوري مخيم اليرموك لما يقارب العام، تعرّض خلالها المخيم لقصف عنيف أدّى إلى مقتل العديد من المدنيين. كما أغلق النظام كل منافذ إدخال المواد الغذائية والطبية ما أسفر عن مقتل المئات جوعاً.
في الموت
تتسع حدقتا عينيه، قلبه يدق بهدوء، ببطء شديد، كأنّه على وشك أن يتوقف؛ الرصاصة تقترب أكثر وأكثر حتى اقتحمت رأس الشاب، الكاميرا مازالت تدور، قفز ليسحب جثة صديقه، وإذ برصاصتين تُخرجان "أمعاءه" إلى خارج جسده؛ يجرُّ نفسه للأسفل سانداً بكفّه ما يخرج من معدته، "استشهد منير".
"خسرت كتير.. يمكن الخسارة تبعي هي ربح لإلن، لأنو الموت ما بوجّع غير الأحياء"، أُصيب الفتى العشريني في بطنه أثناء قيامه بتصوير الاشتباكات. "إسمي ابراهيم، فلسطيني سوري من حيفا"، هكذا عرّف عن نفسه، "أنا ولدت بسوريا، بحس حالي إبن القضية، إذا السوري عندو مبرر ليكون بالثورة أنا عندي اتنين، أول واحد لأني فلسطيني وتاني واحد لأني سوري".
عاش اليرموك 3 محاولات لـ"الهدنة"، كانت نتيجة الأخيرة منها فكّ الحصار التمويني فقط عن المخيم، في حين مازال المخيم يقبع في الظلام بعد مغيب الشمس، إذ لا كهرباء إلا عبر مولدات يتمّ تشغيلها بفترات محددة بسبب نقص المازوت والبنزين، كذلك الماء ومعظم الخدمات الأساسية.
في الغياب
ليلة هادئة للغاية. يقترب من المجموعة التي تقوم بخَبْزِ "خُبز العدس"، يأكل قضمة منها، يلتفت نحو صديقه أحمد الذي يجلس قريباً منه يعمل على حاسوبه الشخصي، وإذا بصوت صاروخ يقترب بسرعة هائلة منهم، يهتزّ المكان، يدير وجهه نحو باقي أصدقائه، يلتفت مجدداً ويرى الصخرة الكبيرة تتهاوى على أحمد، ينظر إلى الأعلى وإذا بصخرة أقل حجماً تهجم على رأسه، يسقط. دقائق ويُحمل جسده، "مجد، أحمد.. أحمد"...
"المخيم بالنسبة إلي هو وطن بكل معنى الكلمة، فيه انولدنا، وتربّينا، ودرسنا، وبنينا فيه علاقات صداقة، وفيه حبَّينا"، قال محمد، الصديق الثالث الذي شهد أيضاً الموت حيّاً، "كل ما يستشهد واحد من صحابي كان يصير معي رهاب من المكان، بس بنفس الوقت كنت إتمسك فيه أكتر".
عن الحياة
في أحد شوارع الحي، تجلس المنازل المدمرة على طرفي الطريق، تحمل بين شقوقها حكايات وذكريات وبقايا قذائف، وفي المنتصف تماماً هناك، تلتف مجموعة من الشبان والأطفال حول "أيهم"، تعلو الموسيقى شيئاً فشيئاً، كذلك أصواتهم، مشهد سوريالي، الأسود يتلاشى، ويتحول المكان إلى حديقة تعود فيها الحياة لدقائق.
"أيهم" يجول اليرموك مع البيانو في محاولة للاستمرار، وكذلك عدد كبير من الشبان والشابات الذين يحاولون بشكل يومي من خلال نشاطات مع الأطفال والمسنين، إلى جانب قيام المؤسسات الموجودة في المخيم بإقامة ورشات تدريبية وتعليمية تتعلق بمهارات التفكير والعمل الجماعي والمواطنة والإعلام والتمريض.
"تعلمنا بالحصار إنّو 5 ساعات كهرباء إذا انوجد المازوت، أحلى من 24 ساعة، وصوت المولّد حنون"، يقول عبد الله، "صرنا نحسّ بقيمة الاشياء، بقيمة الاعشاب يلّلي على الارض، بقيمة الورق على الشجر، بقيمة البسينات والكلاب، لأنو ممكن يكونوا وجبة إلك بيوم ما"، ويكمل: "الحصار علّمنا إنّو لواح الصبّار بتصير أكل. بس الضربة على الشيف. وإنّو الشاي بلا سكر أطيب، والناس هبل ما بتعرف هاد السر".
عبد الله، محمد، وإبراهيم، يكملون اليوم ما بدأوه مع رفاقهم، بالقرب جداً من شواهد قبور الأحبة، "أهم قرار أخدناه نحن 3 الأخيرين، إنو نروح سوى ونيجي سوى، بحال صار شي، يصير لالنا مع بعض، ماعاد نتحمل خسارة جديدة بالمطلق".