نقف متراصي الأكتاف، نرفع رؤوسنا إلى الأعلى، عيوننا محدقة نحو العلم السوري المربوط في منتصف العمود أمامنا، مرتدين كامل اللباس العسكري: البدلة الزيتية، الحذاء الأسود النظيف، الجرابات السود العالية، الحزام على الخصر، نشد أيادينا بثبات نحو الأسفل، ترفع المدربة العسكرية يدها، يلتفت الأساتذة جميعهم معاً باتجاه العمود، يشد أحد الطلاب الحبل المربوط بالعلم، يرفعه ببطء، ننظر جميعنا إلى قطعة القماش تلك وهي ترتفع.
«سنة مدمرة للأطفال»، تحت هذا العنوان نشرت اليونيسيف تقريرها لعام 2014، إذ أوضح المدير التنفيذي في اليونيسيف آنتوني ليك أن «7,3 مليون طفل تأثروا بالصراع الدائر في سورية، منهم 1,7 مليون طفل لاجئ. ووفق الأمم المتحدة، كان هناك 35 هجمة على المدارس خلال الشهور التسعة الأولى من السنة، تسببت بمقتل 105 أطفال وإصابة 300 آخرين».
يبدو أن اليونيسف وغيرها من المنظمات التي تعنى بحقوق الطفل والإنسان، لا تدرك أن سنوات البعث كلها كانت مدمرة للأطفال، لقد كنّا «طلائع البعث»، عجينة الأيديولوجيا الطرية، جنود المستقبل في المطحنة المقبلة، كنّا جميعنا أطفالاً للبعث، «للبعث يا طلائع للنصر يا طلائع» حفظنا مصيرنا عن ظهر قلب، «أقدامنا حقول، طريقنا مصانع». في ذلك الزمن المبكر تبدأ الذاكرة بالتحوير والتشكيل، تشكيل الأوهام التي ستصبح أكبر من أحلامنا ومن أحلام البعثيين أنفسهم.
نحن الجنود الصغار، نفتح أفواهنا معاً، «نحن فلاح وعامل وشباب لا يلين، نحن جندي مقاتل نحن صوت الكادحين»، أنظر إلى صديقتي التي تعاني من رشح حاد، تحاول جاهدة أن تمسح أنفها بحركة سريعة، عليها أن تبقى ثابتة، تسعل، تسعل مجدداً، تخرج منديلاً من جيبها وتمسح وجهها، وتكمل بصوت عالٍ وبحماسة شديدة، «من جذور الأرض جئنا من صميم الألم بالضحايا ما بخلنا بالعطاء الأكرمِ»، تسعل.
هكذا، دُفعنا إلى زيف يأخذ بكل ما له قيمة، بالوطن، بالقومية والأرض، جاعلاً منه «ضرورة» وجودية حاسمة، تلك الضرورة التي فرضتها الديكتاتوريات البعثية على مخيلاتنا، ضرورة صناعة المخيلات القومية. الاستعداد الدائم للتضحية من أجل تلك الضرورات، قبول الموت في سبيلها واشتهائه.
نشأت أجيال البعث على نسق سلوكي وذهني شديد الصرامة يقوم على قاعدة «المثير - الاستجابة» المعروفة، وما يتبعها من معزّزات مختلفة لاحقة. هذا الترابط الكبير بين ما تعرّضنا له من «مثيرات» وما حرّضته من «استجابات» ثابتة لدينا لا بد من أن يؤدي إلى خلل بنيوي يأتي على التصور «الجمعي» الذّهني العام. عندها تكون تلك المثيرات المتكررة (مبادئ البعث وضلالاته) قادرة لوحدها على إثارة تصوّرات نمطية (نحن فلاح وعامل وشباب لا يلين) ثابتة وعصية على النقاش، بحيث تصبح آلية في شكل جبري عند «جمهور» البعث، زمناً بعد آخر. ليس مهمّاً فهم ما نردد أو بتعبير ما أجبرنا على ترديده طوال حياتنا. هذا يخلق عالماً ملتبساً وكائنات أشبه بالماكينات المبرمجة، الموحّدة في الشكل والوظيفة.
في الأنساق اللغوية لخطاب البعث ثمة شيء مثير، إذ تتحول الجملة في أغنية البعث «بالضحايا ما بخلنا» إلى فعل لازم حين يأتي الأمر به، جملة مجردة ملزمة، تحرم مردديها، جمهور البعث ووقوده، من فرصة لوضعها تحت مجهر التحليل الذهني الواعي. هكذا، تظهر تلك الأنساق في أشكال طارئة ومنفصلة عن سياقاتها الزمنية والمكانية، تبدو كأنها من عوالم أخرى، فصّلت خصيصاً لنا نحن وقود المشاريع الواهمة الطموحة.
الأغاني البعـــثية واجـــهات تثير التمعّن فيها: يعتمد البعــث في أغانيه تلك على الفعل المضارع الذي يتركز جانبه الدلالي على الحاضر، «صامد يا بعث صامد أنت في ساح النضال وحد الأحرار هيا وحد الشعب العظيم وامض يا بعث قوياً للغد الحر الكريم»، ما يرسخ لدى مرددها حالاً من الاستنفار المستمر، والتأهب الدائم، كأنه فعلاً في حالة حرب مفتوحة.
بالتالي في هذا السياق، تعد كل كلمة في الأغاني البعثية مثل «الثورة، الأحرار، نحن، يا شباب العرب»، مفردات صغيرة تتحرك متجهة إلى بناء البنية الكبرى «البعث»، الفكرة العظمى «ارفع الصوت قوياً عاش بعث العرب».
في حال اعتبرنا أن أغنية البعث كتبت وفق المنظور الوظيفي، والتي تتكون من المسند والمسند إليه، على هذا يمكننا القول إن الأخير يأتي في المرتبة الثانية أي الشعب، فيما يكون المسند هو البعث أي خلاصة الكلام المقصود، الدائم والثابت.
خلال أكثر من 51 عاماً، حاول البعث إركان الرؤية عند الناس، لكي يكتفوا برؤية ما قل من الأشياء مقدار الإمكان، في المشهد البصري ليس هناك مكان للتّبصّر والتأمل، لا مكان إلا للمشهد ومكوّناته «الحاشدة» ما أمكن. تلك الرؤية لم تكن شيئاً آخر يعبّر عن ذلك البلد المعزول، والذي كان يزداد عزلة كلّما ازدادت أوهامه وبطولات جنوده الصغار والكبار المفترضة.
أمام شاشة التلفاز الصغيرة، جلسنا أنا وإخوتي الثلاثة ننتظر بفارغ الصبر موعد برامج الأطفال على القناة السورية الأرضية، بعد أن أنجزنا المهمات المدرسية ليوم غد. لم يكن هناك قنوات أخرى تصلنا، القناة الأولى، القناة الثانية، وأحياناً تجد القناة الإسرائيلية تظهر وتتلاشى.
وتبدأ شارة المسلسل الأول (صقور الأرض)، «شرف الوطن أغلى منا ومن وما قد يجول في فكرنا بأي زمن شرف الوطن هو أرضي شرف الوطن قبلي وبعدي شرف الوطن».
تقف أختي الصغيرة التي كانت تبلغ حينذاك 8 سنوات، وقفة استعداد جندي، وتردد مع شارة مسلسل الأطفال: «تعاهدنا تعاهدنا. تعاهدنا معاً على الإخلاص والقتال، تعاهدنا، غداً سنعلي راية الفداء، عهداً بأن نكون أقوى من الخصوم أرواحنا فدى الوطن رخيصة الثمن».
«تعاهدنا غداً سنعلي راية الفداء عهداً بأن نكون أقوى من الخصوم»، هكذا جر الأطفال في زمن البعث من دون وعي إلى الظن أن القتال من أجل الوطن الفضيلة المستحبة تلك الفضيلة المستحبة، لقد جعل البعث من «الوطن» صورة خيالية عالية الشحن، كان الوطن لا يوحي إلا بالمجد والسعادة والانتصارات الدائمة، على الأعداء المتخيلين والحقيقيين. الوطن كان ذلك المزيج الساحر من الانفعالات والأحاسيس المتناقضة بين واقع كئيب ووطن سعيد متخيل، اخترعته المخيلة البعثية، الشديدة الإفقار. هي ذاتها تلك المنظومة القائمة التي تحيي الأشبال الصغار، المجندين البراعم العابسة، وكل ما يثير نوعاً من الإلفة الجماعية.
هذه الإلفة، أخذت تتفتت مع الوقت، إلى أن انفجرت كلياً، عندما أدرك الذهن المشبع بالبعث والحزب الأبوي الحامي، أن ما أغرق به من تصورات واعتقادات ومبادئ، ليس واقعياً ولم يكن يوماً إلا اختراعاً واهماً. لقد تم استخدام هذه الرؤية المفروضة كـ «كماشة» لضبط أدمغة الشعب بكبيره وصغيره، كانت كماشة توغل في الشدّة والقسوة، مصمّمة لتبقي تلك الأدمغة متعلّقة بتاريخ الاستعمارات في المنطقة العربية، الرقعة التي تحوّلت بفعل شيطانيٍ عنيف إلى «ساحة النضال»، ساحات لمحاربة طواحين الاستعمار التي لم يعد لها وجود. كانت هذه الرؤية بالضبط هي التي تحجب البصر عن ذلك الواقع المر المعاش، تتحدّث عن كل الاستعمارات، إلا الاستعمار البعثي.
لتنتقل الضرورة القومية البعثية المفروضة بالنسبة للشعب، إلى ضرورة الحرية، ضرورة القوة، والمفردات المتعلقة بالتضحية والقتال والنضال أصبحت تتجه سويةً نحو هدم الفكرة الكبرى «البعث الديكتاتوري». وذلك يظهر جلياً واضحاً في أغاني وهتافات الثورة السورية، «جنوا جنوا البعثية لما طلبنا الحرية»، «على الجنة رايحين شهداء بالملايين»، «الموت ولا المذلة».
الشبان الصغار، يخرجون من ساحة المدرسة البعثية، باتجاه شوارع الوطن الخاص بهم، يخلعون الزي العسكري، شعارات حزب البعث العربي الاشتراكي، يسيرون باتجاه التمثال المتصدع، يسقطونه أرضاً.
سقط البعث في الذهن الحاضر، ولم يعد الحال في سورية كما كان عليه آنذاك، لكن يبدو أن علينا لمواصلة المشروع، أي «مشروع الحرية»، أن نهدم البعث في الأذهان التي تم تنميطها لدينا أيضاً، إذ إن مسيرة المضي نحو إسقاط البعث كلياً في العقل الجمعي الذي استعمره من دون البحث عن الضرورة المسببة لعملية الإسقاط هذه، قد يجعل بعضاً من أجيال البعث المتحررة منه اليوم، تتحرك بثبات نحو ضرورة أخرى لإرساء بعث آخر خاص بها هذه المرة، البعث المتناسخ.
ضحى حسن
الحياة
«سنة مدمرة للأطفال»، تحت هذا العنوان نشرت اليونيسيف تقريرها لعام 2014، إذ أوضح المدير التنفيذي في اليونيسيف آنتوني ليك أن «7,3 مليون طفل تأثروا بالصراع الدائر في سورية، منهم 1,7 مليون طفل لاجئ. ووفق الأمم المتحدة، كان هناك 35 هجمة على المدارس خلال الشهور التسعة الأولى من السنة، تسببت بمقتل 105 أطفال وإصابة 300 آخرين».
يبدو أن اليونيسف وغيرها من المنظمات التي تعنى بحقوق الطفل والإنسان، لا تدرك أن سنوات البعث كلها كانت مدمرة للأطفال، لقد كنّا «طلائع البعث»، عجينة الأيديولوجيا الطرية، جنود المستقبل في المطحنة المقبلة، كنّا جميعنا أطفالاً للبعث، «للبعث يا طلائع للنصر يا طلائع» حفظنا مصيرنا عن ظهر قلب، «أقدامنا حقول، طريقنا مصانع». في ذلك الزمن المبكر تبدأ الذاكرة بالتحوير والتشكيل، تشكيل الأوهام التي ستصبح أكبر من أحلامنا ومن أحلام البعثيين أنفسهم.
نحن الجنود الصغار، نفتح أفواهنا معاً، «نحن فلاح وعامل وشباب لا يلين، نحن جندي مقاتل نحن صوت الكادحين»، أنظر إلى صديقتي التي تعاني من رشح حاد، تحاول جاهدة أن تمسح أنفها بحركة سريعة، عليها أن تبقى ثابتة، تسعل، تسعل مجدداً، تخرج منديلاً من جيبها وتمسح وجهها، وتكمل بصوت عالٍ وبحماسة شديدة، «من جذور الأرض جئنا من صميم الألم بالضحايا ما بخلنا بالعطاء الأكرمِ»، تسعل.
هكذا، دُفعنا إلى زيف يأخذ بكل ما له قيمة، بالوطن، بالقومية والأرض، جاعلاً منه «ضرورة» وجودية حاسمة، تلك الضرورة التي فرضتها الديكتاتوريات البعثية على مخيلاتنا، ضرورة صناعة المخيلات القومية. الاستعداد الدائم للتضحية من أجل تلك الضرورات، قبول الموت في سبيلها واشتهائه.
نشأت أجيال البعث على نسق سلوكي وذهني شديد الصرامة يقوم على قاعدة «المثير - الاستجابة» المعروفة، وما يتبعها من معزّزات مختلفة لاحقة. هذا الترابط الكبير بين ما تعرّضنا له من «مثيرات» وما حرّضته من «استجابات» ثابتة لدينا لا بد من أن يؤدي إلى خلل بنيوي يأتي على التصور «الجمعي» الذّهني العام. عندها تكون تلك المثيرات المتكررة (مبادئ البعث وضلالاته) قادرة لوحدها على إثارة تصوّرات نمطية (نحن فلاح وعامل وشباب لا يلين) ثابتة وعصية على النقاش، بحيث تصبح آلية في شكل جبري عند «جمهور» البعث، زمناً بعد آخر. ليس مهمّاً فهم ما نردد أو بتعبير ما أجبرنا على ترديده طوال حياتنا. هذا يخلق عالماً ملتبساً وكائنات أشبه بالماكينات المبرمجة، الموحّدة في الشكل والوظيفة.
في الأنساق اللغوية لخطاب البعث ثمة شيء مثير، إذ تتحول الجملة في أغنية البعث «بالضحايا ما بخلنا» إلى فعل لازم حين يأتي الأمر به، جملة مجردة ملزمة، تحرم مردديها، جمهور البعث ووقوده، من فرصة لوضعها تحت مجهر التحليل الذهني الواعي. هكذا، تظهر تلك الأنساق في أشكال طارئة ومنفصلة عن سياقاتها الزمنية والمكانية، تبدو كأنها من عوالم أخرى، فصّلت خصيصاً لنا نحن وقود المشاريع الواهمة الطموحة.
الأغاني البعـــثية واجـــهات تثير التمعّن فيها: يعتمد البعــث في أغانيه تلك على الفعل المضارع الذي يتركز جانبه الدلالي على الحاضر، «صامد يا بعث صامد أنت في ساح النضال وحد الأحرار هيا وحد الشعب العظيم وامض يا بعث قوياً للغد الحر الكريم»، ما يرسخ لدى مرددها حالاً من الاستنفار المستمر، والتأهب الدائم، كأنه فعلاً في حالة حرب مفتوحة.
بالتالي في هذا السياق، تعد كل كلمة في الأغاني البعثية مثل «الثورة، الأحرار، نحن، يا شباب العرب»، مفردات صغيرة تتحرك متجهة إلى بناء البنية الكبرى «البعث»، الفكرة العظمى «ارفع الصوت قوياً عاش بعث العرب».
في حال اعتبرنا أن أغنية البعث كتبت وفق المنظور الوظيفي، والتي تتكون من المسند والمسند إليه، على هذا يمكننا القول إن الأخير يأتي في المرتبة الثانية أي الشعب، فيما يكون المسند هو البعث أي خلاصة الكلام المقصود، الدائم والثابت.
خلال أكثر من 51 عاماً، حاول البعث إركان الرؤية عند الناس، لكي يكتفوا برؤية ما قل من الأشياء مقدار الإمكان، في المشهد البصري ليس هناك مكان للتّبصّر والتأمل، لا مكان إلا للمشهد ومكوّناته «الحاشدة» ما أمكن. تلك الرؤية لم تكن شيئاً آخر يعبّر عن ذلك البلد المعزول، والذي كان يزداد عزلة كلّما ازدادت أوهامه وبطولات جنوده الصغار والكبار المفترضة.
أمام شاشة التلفاز الصغيرة، جلسنا أنا وإخوتي الثلاثة ننتظر بفارغ الصبر موعد برامج الأطفال على القناة السورية الأرضية، بعد أن أنجزنا المهمات المدرسية ليوم غد. لم يكن هناك قنوات أخرى تصلنا، القناة الأولى، القناة الثانية، وأحياناً تجد القناة الإسرائيلية تظهر وتتلاشى.
وتبدأ شارة المسلسل الأول (صقور الأرض)، «شرف الوطن أغلى منا ومن وما قد يجول في فكرنا بأي زمن شرف الوطن هو أرضي شرف الوطن قبلي وبعدي شرف الوطن».
تقف أختي الصغيرة التي كانت تبلغ حينذاك 8 سنوات، وقفة استعداد جندي، وتردد مع شارة مسلسل الأطفال: «تعاهدنا تعاهدنا. تعاهدنا معاً على الإخلاص والقتال، تعاهدنا، غداً سنعلي راية الفداء، عهداً بأن نكون أقوى من الخصوم أرواحنا فدى الوطن رخيصة الثمن».
«تعاهدنا غداً سنعلي راية الفداء عهداً بأن نكون أقوى من الخصوم»، هكذا جر الأطفال في زمن البعث من دون وعي إلى الظن أن القتال من أجل الوطن الفضيلة المستحبة تلك الفضيلة المستحبة، لقد جعل البعث من «الوطن» صورة خيالية عالية الشحن، كان الوطن لا يوحي إلا بالمجد والسعادة والانتصارات الدائمة، على الأعداء المتخيلين والحقيقيين. الوطن كان ذلك المزيج الساحر من الانفعالات والأحاسيس المتناقضة بين واقع كئيب ووطن سعيد متخيل، اخترعته المخيلة البعثية، الشديدة الإفقار. هي ذاتها تلك المنظومة القائمة التي تحيي الأشبال الصغار، المجندين البراعم العابسة، وكل ما يثير نوعاً من الإلفة الجماعية.
هذه الإلفة، أخذت تتفتت مع الوقت، إلى أن انفجرت كلياً، عندما أدرك الذهن المشبع بالبعث والحزب الأبوي الحامي، أن ما أغرق به من تصورات واعتقادات ومبادئ، ليس واقعياً ولم يكن يوماً إلا اختراعاً واهماً. لقد تم استخدام هذه الرؤية المفروضة كـ «كماشة» لضبط أدمغة الشعب بكبيره وصغيره، كانت كماشة توغل في الشدّة والقسوة، مصمّمة لتبقي تلك الأدمغة متعلّقة بتاريخ الاستعمارات في المنطقة العربية، الرقعة التي تحوّلت بفعل شيطانيٍ عنيف إلى «ساحة النضال»، ساحات لمحاربة طواحين الاستعمار التي لم يعد لها وجود. كانت هذه الرؤية بالضبط هي التي تحجب البصر عن ذلك الواقع المر المعاش، تتحدّث عن كل الاستعمارات، إلا الاستعمار البعثي.
لتنتقل الضرورة القومية البعثية المفروضة بالنسبة للشعب، إلى ضرورة الحرية، ضرورة القوة، والمفردات المتعلقة بالتضحية والقتال والنضال أصبحت تتجه سويةً نحو هدم الفكرة الكبرى «البعث الديكتاتوري». وذلك يظهر جلياً واضحاً في أغاني وهتافات الثورة السورية، «جنوا جنوا البعثية لما طلبنا الحرية»، «على الجنة رايحين شهداء بالملايين»، «الموت ولا المذلة».
الشبان الصغار، يخرجون من ساحة المدرسة البعثية، باتجاه شوارع الوطن الخاص بهم، يخلعون الزي العسكري، شعارات حزب البعث العربي الاشتراكي، يسيرون باتجاه التمثال المتصدع، يسقطونه أرضاً.
سقط البعث في الذهن الحاضر، ولم يعد الحال في سورية كما كان عليه آنذاك، لكن يبدو أن علينا لمواصلة المشروع، أي «مشروع الحرية»، أن نهدم البعث في الأذهان التي تم تنميطها لدينا أيضاً، إذ إن مسيرة المضي نحو إسقاط البعث كلياً في العقل الجمعي الذي استعمره من دون البحث عن الضرورة المسببة لعملية الإسقاط هذه، قد يجعل بعضاً من أجيال البعث المتحررة منه اليوم، تتحرك بثبات نحو ضرورة أخرى لإرساء بعث آخر خاص بها هذه المرة، البعث المتناسخ.
ضحى حسن
الحياة